لا مشاورات الجو، ولا مشاورات الأرض، تبدو كافية لإيقاظ الدولة وأركانها من السبات العميق الذي يغطون فيه منذ اعتبروا ان تعليق المبادرة الفرنسية بعد توجيه ضربة قاسية اليها على يد “الثنائي الشيعي ” قد منحهم ذريعة الاستسلام للانتظار. ولعل الامر الذي بات مكشوفا ولا يحتاج الى ادلة لإثباته هو ان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي لم يصدر بعد اي إشارة لا من قريب ولا من بعيد الى موعد قيامه بتحريك الاستحقاق الحكومي العالق والجامد من خلال انعدام أي تحرك إيذانا بتحديد مواعيد الاستشارات النيابية الملزمة، يستبطن هذه المرة اتجاها فعليا اكثر من أي تجربة سابقة لانجاز توافقات سياسية تستبق الاستشارات بما يقدم عمليا التوافق على معالم الحكومة واسم رئيسها قبل اجراء استشارات التكليف. واذا كانت حسابات عون في هذا السياق تتصل بتداعيات الأضرار الكبيرة التي لحقت بدوره جراء تعمد حليفه “حزب الله ” التسبب بتعليق المبادرة الفرنسية حاليا على الأقل في انتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية، فان المعطيات الماثلة بقوة حيال أسباب الجمود اللافت الذي يشوب المشهد الرسمي والسياسي، تشير الى استبعاد تسمية رئيس الحكومة المكلف قريبا وسط انقطاع جسور التواصل بين رئاسة الجمهورية ومعظم القوى السياسية وعدم فهم حقيقة الدوافع التي تجعل رئيس الجمهورية يمضي في تأخير الاجراء الدستوري المتمثل بالاستشارات النيابية الملزمة.
وتؤكد أوساط معنية ان الملف الحكومي حضر لماماً في رحلة التعازي الى الكويت، وعلم ان التباعد الاجتماعي في جلوس رؤساء الجمهورية والمجلس والحكومة المستقيلة كان ترجمة رمزية للجمود الذي يتحكم بملف التكليف والتأليف. فرئيس الجمهورية ورئيس المجلس كانا متفقين على ضرورة الاسراع في اجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس لتشكيل الحكومة المقبلة. لكن علم من المصادر ان جمود الاتصالات الحكومية وعدم حسم الكتل مواقفها من مسار التكليف والتأليف قد يؤخر موعد الاستشارات الى الاسبوع المقبل بعدما كان متوقعاً حسم موعدها في هذه الرحلة واجرائها نهاية الاسبوع الجاري.
وتؤكد المصادر ان الكلام عن اتجاه رسمي لتعويم حكومة تصريف الاعمال ليس دقيقاً ولا يمكن لأي مسؤول القبول بهذا الشلل في ادارة شؤون الدولة والمواطنين، الا ان الاكثرية ليست بوارد الذهاب الى تكرار تجربة حكومة الرئيس حسان دياب اي حكومة الفريق الواحد، ولذلك تنتظر الكتل رؤساء الحكومات السابقين ليرشحوا شخصية فيتبناها الآخرون. ومعروف حتى الآن انه بعد فشل تجربة ترشيح الرئيس المكلف مصطفى اديب ، لن يكرر الرؤساء الاربعة السابقون التجربة نفسها، وهم يمتنعون عن اي ترشيح. حتى ان مبادرة الرئيس نجيب ميقاتي بحكومة عشرينية تكنو- سياسية ما زالت مبادرة فردية لم يتبناها زملاؤه رؤساء الحكومات.
ووفق المصادر المطلعة على الرحلة الرئاسية الى الكويت، فان البحث خاض اكثر في ملف الترسيم الحدودي. ومن المتوقع ان يشكل رئيس الجمهورية الوفد المفاوض من العميد بسام ياسين، والعقيد مازن بصبوص، وضابط الارتباط في اللجنة الثلاثية العميد حسيب عبدو ، اضافة الى عضو من هيئة ادارة قطاع النفط.
ويلفت معنيون الى امكان ان يكون هناك دافع ضمني للتريث في اطلاق جولة الاتصالات واللقاءات والمشاورات الاستباقية للاستشارات الملزمة يتصل بإعادة ترميم التفاهم بين القوى اللبنانية و”الراعي الفرنسي” بعدما استشعر جميع المسؤولين والقوى فداحة التداعيات التي تتهدد البلاد جراء التشهير السلبي الحاد الذي أصاب صورة السلطة عقب الهجوم الذي شنه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على مجمل الطبقة السياسية واضعا المجتمع الدولي امام خلاصة من شأنها تعريض السلطة المقبلة لعزلة كبيرة ما لم يقترن تأليف الحكومة الجديدة بـ”ختم ” الموافقة الفرنسية عليها.
تبعا لذلك بدا واضحا ان خلوة الرئيسين عون ونبيه بري خلال رفقة الرحلة الجوية الى الكويت ذهابا وإيابا امس لم تشكل أي تطور يعتد به ولو انه يعتقد انها أرست التمهيد اللازم لاطلاق الاتصالات المتعلقة باستمزاج القوى السياسية حيال الشخصية المناسبة لتولي رئاسة الحكومة الجديدة بعد مجمل الصدمات الداخلية والخارجية التي حصلت أخيرا.
رفع الدعم
غير ان الجمود السياسي المهيمن على الاستحقاق الحكومي بدأ ينذر بأسوأ التداعيات في ظل انعدام فاعلية أي إجراءات من شأنها ان تلجم الاتجاهات البالغة الخطورة لانهيارات تبدو اقرب واخطر مما يعتقد كثيرون. فاذا كان هاجس انهيار النظام الصحي والاستشفائي يتقدم كل الهواجس في ظل الارتفاعات المحلقة لإعداد المصابين بفيروس كورونا فان ذلك لا يقلل خطورة اقتراب استحقاقات مالية واجتماعية داهمة في الشهرين المقبلين بما يثير الخشية المتعاظمة من الفراغ الحكومي الذي لا تعوضه في أي شكل حكومة تصريف الاعمال المحدودة الصلاحيات. اقرب واكثر هذه الاستحقاقات وأكثرها اثارة لمخاوف اللبنانيين بدأت ترتسم مع نفاد مهلة الشهرين او الثلاثة التي سبق لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ان أبلغها الى الحكومة في شأن رفع الدعم عن المواد الاستراتيجية في ظل بلوغ احتياط العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي الخط الأحمر. والواقع ان موضوع رفع الدعم وضع عمليا في الأيام الأخيرة على الطاولة إيذانا بوضع الخطة التنفيذية للتعامل مع تداعياته في موعد لم يعد يتجاوز الشهرين حدا اقصى. وفي اجتماع عقد أخيرا في مصرف لبنان وضم حاكم المصرف ووزيري المال والاقتصاد في حكومة تصريف الاعمال غازي وزني وراوول نعمة، علمت “النهار” ان الاتجاه الغالب الذي برز في النقاشات هو الى اعتماد ألية للرفع المتدرج للدعم بشكل لا يمس دعم القمح مثلا الذي لا يحتاج الى أموال كبيرة فيما سيجري وضع لوائح بالأدوية التي لا يمكن تركها بلا دعم وتمييزها عن الأودية الأقل الحاحا كما سيجري تخفيف الدعم عن المحروقات بنِسَب مدروسة.
اما الجانب الاخر من الاستحقاقات المالية فبرز امس مع بدء الخطوات العملية لاجراء التدقيق الجنائي في مصرف لبنان تنفيذا للعقود التي وقعها وزير المال غازي وزني مع شركة التدقيق الجنائي “الفاريز اند مارشال” في الأول من أيلول الماضي . وعقد امس وفد الشركة اجتماعا مع وزني في وزارة المال ثم اجتمع مطولا مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وقدم اليه لائحة بالمعلومات التي تطلبها الشركة كما تناول الاجتماع آلية التنسيق والتعاون بين الوفد والمصرف لانجاز التدقيق في حسابات المصرف المركزي .
كورونا
في غضون ذلك يواصل وباء كورونا تفشيه في مختلف المناطق ويقفل مزيداً من المؤسسات والدوائر الرسمية والقطاعات، فعلى رغم العزل الذي طال 111 بلدة، سجلت الفحوص المحلية الإيجابية لكورونا أمس النسبة الأعلى على الإطلاق ووصلت إلى 20.5 في المئة، وهي نسبة تنذر بالأسوأ إذا استمر الوضع على ما هو عليه من خروق للعزل والإقفال وعدم الالتزام بالتباعد الاجتماعي ووضع الكمامة، خصوصاً ان أسرة المستشفيات المخصصة للمصابين بالوباء امتلأت، فيما المستشفيات الخاصة لم تزد أسرّتها بعد وفق ما أكّد وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن.
وأعلنت وزارة الصحة العامة في تقريرها اليومي أمس تسجيل 1175 اصابة جديدة رفعت العدد التراكمي منذ 21 شباط الماضي الى 45657 حالة. كما سجلت 8 حالات وفاة رفعت العدد الإجمالي للوفيات جراء كورونا في لبنان إلى 414 وفاة. وسجلت ايضاً 9 إصابات في القطاع الصحي رفعت العدد بين العاملين في القطاع إلى 1087، فيما بلغت حالات الشفاء 20243 حالة. وأوضح التقرير ان عدد فحوص PCR بلغ 6703 فحوص من بينها 5661 للمقيمين و1052 للوافدين عبر المطار، فيما بلغت نسبة الفحوص المحلية الإيجابية 20.5 في المئة وهي الأعلى على الإطلاق، إذ أن قرار الإقفال للقرى والأحياء الـ111 اتخذ بناء على نسبة بلغت 8 في المئة وهذا ما ينذر بخطر صحي كبير في مختلف المناطق.
ويظهر من خلال المعطيات أن لا قرار بالإقفال العام، فيما تبحث لجنة كورونا الوزارية عن خيارات أخرى لكبح تفشي الوباء، ووفق تصريح لمستشارة رئيس حكومة تصريف الأعمال بترا خوري أن “خيار اقفال البلد غير متاح لانه يعني نهاية للقطاع الاقتصادي”، موضحةً ان “لا خيارات امامنا سوى خطة عزل المناطق وللأسف لم نر تجاوباً مشجعاً لا من المؤسسات ولا من الافراد ولا من السلطات المحلية”.