بين دعاة الإقفال التام ودعاة الإقفال الجزئي، ينازع اللبنانيون على فراش الموت السريري لضمير السلطة والشلل المستحكم بمفاصل الدولة تحت وطأة التضارب في الصلاحيات والتخبط في الأداء. حكومة يتخندق وزراؤها في مواجهة بعضهم البعض لا يُرتجى منها لا علاج ولا دواء، بل هي بيت الداء والبلاء والوباء، وما تقاذف تُهم التقصير والعجز سوى علامة فارقة إضافية في سجل فشل التركيبة الحاكمة وانعدام حسّ المسؤولية لدى أركانها… على شاشة يطل وزير الصحة مصوّباً على خيار الإقفال الجزئي وعدم جدواه، وعلى شاشة أخرى يطل وزير الداخلية مصوّباً على التدخلات السياسية والقضائية في تطبيقات التدابير الاحترازية التي تعتمدها وزارته، وبين هذا وذاك يدخل البلد مرحلة الوضع “الكارثي” على مقياس تفشي الوباء، وتسود سياسة “مناعة قطيع” قسرية بحكم الأمر الواقع، سيكون فيها “البقاء للأقوى” مناعياً وصحياً ومادياً.هكذا اختصرت مصادر رسمية معنية بالملف الصحي الوضع القائم والقادم على اللبنانيين، موضحةً لـ”نداء الوطن” أنّ الأمور متجهة “من السيئ إلى الأسوأ ومن السوداوية إلى المأساوية”، لافتةً إلى أنّ “طرح الإقفال التام دونه اعتراضات وعقبات تمنع تطبيقه، وطرح الإقفال الجزئي تحول دون تطبيقه تعقيدات متشعبة وسط حالة الضياع المتحكمة بتوجهات الجهات الرسمية المعنية، فلا الدولة طبقت الإجراءات التي اتخذتها ولا الناس التزمت تلقائياً بهذه الإجراءات”.
وحذرت المصادر من “انهيار وشيك في القطاع الطبي والتمريضي والاستشفائي عموماً”، مؤكدةً أنّ “هذا القطاع أصبح منهكاً والعديد من الأطباء والممرضين سلكوا طريق الهجرة والسفر للعمل في الخارج، وبالتالي فإنه مع تزايد وتيرة الإصابات وتناقص القدرة الاستشفائية والطواقم الطبية والتمريضية، باتت كل المؤشرات تنذر بأنّ البلد يسير نحو منزلقات خطرة قد تشهد ارتفاعاً حاداً في معدلات الوفيات بشكل دراماتيكي، لا سيما في صفوف المصابين بكورونا من ذوي الأمراض المزمنة ونقص المناعة”.
وعما يتم تناقله عن ارتفاع بالآلاف في أعداد الوفيات في حال دخول لبنان مرحلة “مناعة القطيع”، نفت المصادر وجود “أي تقديرات أو نسب مئوية علمية تتيح توقع مثل هذه الأعداد، عدا عن أن هذا المبدأ لم يُعتمد بشكل رسمي في أي دولة لكي يقاس عليه علمياً كنموذج متبع في هذا المجال”، غير أنها أشارت إلى أنّ “قراءة المعطيات والمؤشرات اللبنانية تفيد بتسجيل نحو 500 ألف إصابة كورونا خلال الأشهر الخمسة الأخيرة (80 ألف إصابة معلنة يقابل كل حالة منها 6 حالات غير مثبتة مخبرياً)، وقياساً على الاعتقاد الطبي السائد بأنّ هذا الرقم سيتضاعف كل 5 أشهر، وإذا ما اعتمدنا المعيار العالمي الذي يقول بأنّ دخول أي بلد في مرحلة مناعة القطيع يحتاج إلى إصابة 60% من سكانه، سيكون لبنان عندها أمام مشهد كارثي خلال عام يضعه عنوةً أمام احتمال كهذا مع ما يرافقه من ارتفاع حاد في نسب الوفيات، ما لم يتم اعتماد اللقاح المنتظر لمكافحة التفشي”.
حكومياً، عادت الأمور إلى مربع تجاذب المغانم على مذبح التأليف. فالسكوت الذي كان بالأمس علامة رضى وإيجابية على المضمار الحكومي، أضحى اليوم من علامات النكسة والسلبية لا سيما في ضوء تأكيد أوساط مواكبة للملف أنّ “حليمة عادت لعادتها القديمة” في إشارة إلى عودة لعبة فرض الشروط على طاولة الرئيس المكلف “ما جعل ولادة الحكومة أسيرة رغبات المتحاصصين”، لافتةً إلى أنّ اندفاعة الرئيس المكلف سعد الحريري اصطدمت خلال الأيام الأخيرة “بمحاولات ومناورات متجددة تهدف في الجوهر إلى تطويع الطابع التخصصي لتشكيلته وتفريغه من مضمونه عبر جملة مطالب وشروط استيزارية رامية إلى توسيع التركيبة الحكومية لتمثيل مختلف مكونات الأكثرية الحاكمة”.
وإذ شددت على أنّ اللقاء المقبل بين الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون “من المفترض أن يؤسس إما لانفراج أو لانفجار في الوضع الحكومي”، لاحظت المصادر أنّ تأثير رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل عاد ليطغى على مقاربة عون للاستحقاق الحكومي “بعدما بدا رئيس الجمهورية في بداية مشاورات التكليف والتأليف أنه تحرر نسبياً من هذا التأثير مدفوعاً بالحاجة إلى تشكيل حكومة قادرة على إنقاذ ما تبقى من عهده”، من دون أن تستبعد في الوقت عينه وجود “قبة باط” من جانب “حزب الله” لحلفائه في سبيل “تأخير ولادة الحكومة ربطاً باستحقاقات إقليمية ودولية”.
إزاء هذا المشهد، تساءل البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي في أعنف انتقاد لأركان السلطة الحاكمة: “بأي حق يعرقلون الحكومة الجديدة؟ ألا يخجلون؟ لا حمايةً للمبادئ الدستورية والثوابت الوطنية، بل تمسك بمحاصصتهم وبالحقائب الطائفية، فيما نصف الشعب اللبنانيّ لا يجد “حصّة” طعام ليأكل ويوضّب “حقائبه” ليهاجر. يا للجريمة بحقّ الوطن والمواطنين”، وأضاف: “فليوقف جميع الأطراف ضغوطهم على الرئيس المكلَّف، لكي يُبادر بالتعاون مع رئيسِ الجمهورية إلى إعلان حكومة بمستوى التحديات… لكنَّ ما رَشَح عن نوعية الحكومة العتيدة لا يُشير إلى الاطمئنان”.