مع ان تراكم الازمات والاستحقاقات الداهمة والموروثة في لحظة انتظار جلاء الغموض المريب في مسار تأليف الحكومة لا يجعل اللبنانيين يلتفتون الى كثير من “الغرائب” فان هذا الواقع لا ينطبق على “الإطلالة” الأكثر اثارة للغرابة التي أتحف بها رئيس النظام السوري بشار الأسد امس الرأي العام اللبناني والسوري . فالأسد الممتهن دوما ابتداع الذرائع التي تبرر حربه على شعبه بالذات، بدا كأنه استنفد الكثير من إبداعاته السورية فانبرى الى حيث لا يزال حنينه الأول، الى مسرح وصايته السابقة لبنان، ليطلق آخر ابتكارات الذرائع المتعلقة بالانهيارات الاقتصادية والمالية التي تسببت بها حروبه ويرمي كرتها في الملعب اللبناني. ولمن اسف شديد بل لمن غضب شديد ان أي رئيس او مسؤول او وزير او هيئة مالية او مصرفية لم تتطوع للرد على الاقتحام السافر المجاني للأسد في مسالة حساسة بما يمليه التعبير عن مأساة لبنان الذي تسببت بالكثير منها وقائع رزوح لبنان تحت وطأة الأثقال والأعباء الهائلة التي تسببت بها الحرب السورية للبنان بدءا بعبء النازحين ومرورا باكلاف التهريب المفتوح عبر الحدود الشرقية وانتهاء بأعباء تحمل الاقتصاد اللبناني ما لا يحتمله من اسناد للاقتصاد السوري وليس العكس. فالأسد وبعد طول غياب “مباشر” على الأقل عن المسرح اللبناني الداخلي، اختار ان تأتي “إطلالته” المفاجئة من الباب المصرفي المالي كأنه لا يكفي لبنان واللبنانيين ما يعانونه من تداعيات ازمة الودائع والانهيار المتدحرج منذ سنة ونيف. وفي شريط مسجل وزع على نطاق واسع بدا الأسد مع زوجته أسماء يزوران معرض “منتجين 2020” في دمشق ليلقي من هناك تبعة احتجاز نحو 42 مليار دولار أميركي كودائع لسوريين في المصارف اللبنانية معتبرا ذلك من ابرز أسباب الازمة الاقتصادية والمالية في سوريا. ويكتسب هذا الموقف دلالات سلبية توجب الرد اللبناني الرسمي والمصرفي عليه لجهة انه اطلق رقما غير دقيق وغير جدي بدليل انه اكد بنفسه ان الرقم يراوح بحسب “ما يقال” بين 20 مليار دولار و42 مليار دولار. حتى ان الأسد برأ العقوبات الأميركية وقانون قيصر والحصار على نظامه ليرمي كرة افلاسه لبلاده في مرمى المصارف اللبنانية بما يكشف نواياه للسطو على بقايا العافية المالية اللبنانية اذا تمكن الى ذلك سبيلا علما انه مع السرية المصرفية اللبنانية يستحيل معرفة حجم الودائع السورية الحقيقية أولا ثم ان معظم الودائع السورية في لبنان تصنف في خانة الأموال الهاربة من النظام السوري نفسه وما تسبب به لشعبه. وفي كل الأحوال فان الامر الذي يوجب رد الدولة اللبنانية (ان وجدت) عليه بأسرع ما يمكن .
المسار المشلول ؟
في أي حال لم تأت هذه الإطلالة الأسدية من فراغ اذ ربما تكون استغلت التخبيص الرسمي الحاصل في التعامل مع موضوع التدقيق الجنائي لتزيد التشويش على المشهد الداخلي فيما تغيب كل معالم التحركات على مسار تأليف الحكومة الجديدة بما يثير الدهشة حيال “اختفاء” كل التحركات منذ أيام. فعلى الأقل علنا وظاهريا تحكم شلل غير مسبوق بمسار تأليف الحكومة بحيث بدت كل محركات الاتصالات والمشاورات خامدة تماما وانعدمت حركة اللقاءات لا سيما على خط بعبدا. ولفتت في هذا السياق مواقف اشتراكية عبر عن أولها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط من خلال تغريدة ساخرة وخاطفة كتب عبرها “وزارة الاختصاصيين تزداد وضوحا في كل يوم “.
ثم أعقب ذلك تصريح لعضو كتلة “اللقاء الديموقراطي” وائل بو فاعور عبر “النهار” قال فيه ان “رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري يسعى جهده لاخراج حكومة مختصة تعالج المأزق الاقتصادي لكنه لا يلاقي تجاوبا من فريق رئيس الجمهورية الذي يريد فرض شروطه وشروط حلفائه وهناك محاولة للتملص من الالتزامات تجاه المبادرة الفرنسية “.
اما ملف التدقيق الجنائي فبدا انه اخضع لتسوية بين اهل السلطة ومصرف لبنان من جهة وبين الدولة وشركة “الفاريز ومارسال” من جهة أخرى قضت بتمديد مهلة تقديم الدولة اللبنانية المستندات والملفات العائدة لحسابات مصرف لبنان الى الشركة لمدة ثلاثة اشهر إضافية تتعهد الدولة بعدها تسليم كامل المستندات. وجاء ذلك بعد اجتماع عقد في قصر بعبدا وضم رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير المال غازي وزني وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومدير شركة “الفاريز ومارسال” دانيال جيمس . ومن ثم عقد اجتماع في السرايا برئاسة رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب خصص للبحث في المخرج الذي يكفل تسليم المستندات من دون مخالفة قانون السرية المصرفية ويبدو انه جرى التوافق على ان توجه وزارة المال كتابا رسميا الى مصرف لبنان لتزويدها المستندات المتعلقة بحسابات الدولة بحيث ترفع المسؤولية عن المصرف في موضوع السرية.
انفجار المرفأ
من جهة ثانية، ظهرت بوضوح في اليومين الماضيين تداعيات انفجار المرفأ على العائلات التي لم تتمكن بعد من اصلاح منازلها مع بدء موسم الشتاء، وفي هذا الاطار أكد عضو كتلة “الجمهورية القوية” النائب عماد واكيم أن “الأمور تتراكم كثيرا، والدولة غائبة تماما”، مشددا على “حق المتضررين والضحايا من انفجار مرفأ بيروت في معرفة الحق ومسبب الانفجار”، وقال: “بعد الانفجار، طالبنا، كما غيرنا، وشهدنا عرائض كثيرة تطالب بلجنة تقصي حقائق دولية، وتم الاعتراض على الموضوع لأن النتيجة ستظهر بعد 5 أيام. وعندما سألنا منذ شهر عن التحقيق قيل لنا إنه تحقيق إداري”.