لم تعد المناشدات الخارجية والدولية عموما التي توجه تباعا وبوتيرة تصاعدية في الآونة الأخيرة الى السلطات والسياسيين في لبنان سوى وجه واضح ومعبر بل وحامل لنذر خطورة عالية من وجوه النظرة الدولية الى انزلاق لبنان بسرعة نحو متاهات انهيار كبير اين منه كل الانهيارات المتدرجة التي عرفها منذ اكثر من سنة بقليل. ولعل أسوأ ما يصاحب ظاهرة التحذيرات الخارجية من الآتي الأشد سؤا ان مجريات المشهد الداخلي في ما يتصل بمسار تأليف الحكومة لم تعد تنذر بمزيد من الانسداد وتداعياته بل اكثر بكثير في ما بدأت التلميحات تتصاعد حياله أي التمديد للفراغ المملؤ بحكومة تصريف اعمال الى أمد غير مرئي مرشح لان يتجاوز مطلع السنة الجديدة بكثير. ولم تكن الأيام الأخيرة في عطلة ذكرى الاستقلال وعطلة نهاية الأسبوع سوى عينة واضحة عن القطيعة السياسية الواسعة التي تعيشها البلاد في عز غرقها المتدرج في تداعيات الازمات الصحية الوبائية والمالية والاقتصادية والاجتماعية فيما لا يزال هناك من يستبيح الانحدار المتسارع نحو الهاوية بلعبة المكاسب السياسية والاشتراطات والتطوع لجعل التعقيدات التي تمنع ولادة حكومة انقاذية ستارا واهيا للجهات المرتبطة بقوى إقليمية في رهاناتها على عامل الانتظار من دون أخذ الكارثة اللبنانية المتعاظمة في الاعتبار.
باختصار شكلت الوقائع السياسية التي اطلقت في مناسبة الذكرى الـ77 للاستقلال دليلا إضافيا على التحجير على الانفراج الموعود في تأليف الحكومة من خلال مؤشرين أساسيين: الأول تعمد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كشف الخلافات القائمة بينه وبين رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري على التركيبة الحكومية من خلال حملته الضمنية على الحريري واتهامه له بالاستقواء والتستر بالمبادرات الانقاذية للخروج عن القواعد والمعايير الواحدة. وهو اتهام أعاد المراقبين الى النسخة الأصلية من تعبير عون عن رفضه تكليف الحريري قبل شهر حين وجه آنذاك رسالة ضمنها تحريضا للنواب على رفض تكليف الحريري. وتفيد المعلومات المتوافرة عن تعقيدات التاليف انها عادت الى المربع الأول تماما حتى ان الرئيسين عون والحريري لم يتفقا مجددا على عدد الوزراء ولا على الأسماء المرشحة أيضا. وأشارت الى ان عون استاء في اللقاء الأخير من طرح الحريري سبعة مرشحين لوزراء مسيحيين مستقلين ومن ذوي الخبرات مع انهم ليسوا محسوبين على أي طرف رغم ان الحريري لم يسم بعد الوزراء الشيعة ولن يقبل ان تأتي تسميتهم من الثنائي الشيعي وهو ما ابلغه الى عون كما انه ترك حقيبتي الدفاع والداخلية لكي يقترح عون الأسماء على ان تكون للحريري كلمته في الخيار.
اما المؤشر الثاني على استرهان عملية التاليف فتمثلت في تصاعد مناخات ساخنة تنذر بتصعيد سياسي إضافي على خلفية الفشل الذي مني به الحكومة والحكومة في إدارة ملف التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان فبدأت تداعيات هذا الفشل تتحول في اتجاه اشعال معركة سياسية يبدو انها قد تؤدي الى اصطفافات سياسية طارئة وظرفية. ذلك ان المفارقة وضعت العهد و”التيار الوطني الحر” وحزب “القوات اللبنانية ” في موقع وصف بانه اشبه بواقع ثنائي مسيحي ومتقارب في هذا الملف من خلال حملة الفريقين على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وكذلك اتهامهما لرئيس مجلس النواب نبيه بري وتيار ”المستقبل” بعرقلة التدقيق. ويخشى والحال هذه ان يأخذ هذا الملف طابعا سياسيا وحزبيا وحتى طائفيا في حين ان انسحاب شركة “الفاريز ومارسال” الذي شكل صدمة قاسية للدولة والحكم جاء نتيجة وجود عقبات قانونية كان بدا العمل على معالجتها ضمن مهلة الثلاثة اشهر الممدة لتسلم المستندات المطلوبة من مصرف لبنان. ولن يعقد اليوم الاجتماع الذي كان متوقعا في بعبدا لاقناع الشركة بالعودة الى العقد مع الدولة بعدما غادر ممثلها لبنان. وقد يعقد اجتماع آخر ينظر في امكان توقيع عقد جديد مع شركة تدقيق أخرى وذكر ان عقدا جديدا لا يحتاج الى قرار جديد من مجلس الوزراء الذي سبق له ان فوض وزير المال غازي وزني التوقيع على عقد تدقيق جنائي. وقال وزني ل”النهار” انه يريد من دون أي تردد التدقيق الجنائي في مصرف لبنان وفي كل الوزارات ومؤسسات الدولة.
قانون الانتخاب
اما الملف الثاني الذي اطل امس برأسه وينذر بدوره باثارة مزيد من السخونة السياسية والاستقطاب والاصطفافات ذات الخلفيات الطائفية أيضا فيتصل بقانون الانتخابات النيابية الذي بدأ يثير سجالات حادة ايضا بين نواب من “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية ” من جهة وحركة “امل” وكتلة التنمية والتحرير من جهة مقابلة. واتخذت هذه السجالات دلالات ساخنة عشية جلسة ستعقدها اللجان النيابية المشتركة غدا الأربعاء ما لم تطرأ تطورات ترجئ الجلسة او تطير نصابها غدا وهي مخصصة للبحث في ملف قانون الانتخابات في ظل ادراج ثلاثة اقتراحات قوانين امام النواب الأول لكتلة التنمية والتحرير المتضمن مشروع النسبية على لبنان دائرة واحدة والثاني لكتلة الرئيس نجيب ميقاتي والثالث لكتلة التنمية والتحرير أيضا ويتعلق بانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ. وإذ تمحورت السجالات بين نواب من “تكتل لبنان القوي” وكتلة التنمية حول موضوع الدائرة الواحدة تقرر ان تعقد “كتلة الجمهورية القوية” اجتماعا اليوم برئاسة رئيس حزب القوات سمير جعجع ليبت موقف الكتلة من جلسة الغد وأوضحت مصادر القوات ان الاحتمالات مفتوحة على المشاركة في جلسة اللجان او مقاطعتها. وأفادت معلومات ان هناك تنسيقا جاريا بين “التيار الوطني الحر” “والقوات” في شأن ملفي التدقيق الجنائي وقانون الانتخاب.
نداء اممي
وسط هذه الأجواء الداخلية المحتدمة وجه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش امس دعوة الى قادة لبنان للإسراع في تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. وجاءت هذه الدعوة في بيان أصدره المتحدث باسم الأمين العام ستيفان دوجاريك. وذكر البيان ان الأمين العام يجدد دعوته الى القيادة اللبنانية للموافقة بسرعة على تشكيل حكومة جديدة قادرة على تنفيذ الإصلاحات والاستجابة لاحتياجات الشعب اللبناني.
وفي موقف سعودي ذات صلة بالازمة الحكومية اعتبر وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان ان “اهم ما يمكن لبنان ان يقوم به هو مساعدة نفسه فالوضعان السياسي والاقتصادي في لبنان هما ثمرة طبقته السياسية التي لا تقوم بالتركيز على تحقيق الرخاء للشعب اللبناني”. ورأى في مقابلة صحافية ان “على الحكومة اللبنانية التركيز على القيام بإصلاحات حقيقية وتقديم الخدمات من اجل البلاد وبدء العمل على إمكانات البلاد “.
”المبادرة الوطنية الانقاذية”
وسط هذه الأجواء عاد النبض المدني الانتفاضي الى البروز مع اعلان شريحة واسعة من القطاعات النقابية والمدنية التي تشكل صلب المجتمع المدني مبادرة جديدة هي “المبادرة الوطنية الانقاذية” لاستعادة دولة المواطنة التي أعلنها نقيبا المحامين في بيروت ملحم خلف وطرابلس محمد المراد من قصر العدل في بيروت. وباسم العائلات الروحية ونقابات المهن الحرة والجامعات والفاعليات الاقتصادية والهيئات العمالية أعلنت المبادرة التي تتضمن مرحلتين للتغيير المنسجم مع الدستور “لاسترداد الدولة من خلال إعادة تكوين السلطة” كما قال خلف. الأولى تتناول تشكيل حكومة موثوقة من متخصصين مستقلين بصلاحيات تشريعية محدودة تتولى إقرار بدء تنفيذ خطة انقاذية ومن ثم إعادة تكوين السلطة بإقرار قانون مجلس شيوخ وقانون انتخاب من خارج القيد الطائفي وفي المرحلة الثانية قيام المجلس المنتخب من خارج القيد الطائفي واستكمال تحصين الإصلاحات وإنفاذ اللامركزية الإدارية وإقرار قانون أحزاب على قاعدة وطنية غير طائفية