ان يخرج الجميع رابحين من جلسة كتلك التي عقدها امس مجلس النواب و”استجاب”فيها لرسالة رئيس الجمهورية ميشال عون متخذا قرارا بتوسيع التدقيق المالي الجنائي ليشمل كل مؤسسات الدولة، فهذا من البدع والابتكارات المشهودة في التوازنات السياسية والنيابية اللبنانية التقليدية، ولا يشذ اطلاقا عن اطار التسويات التي غالبا ما تطبع الخروج من مآزق يراد لها ان تنتهي بلا غالب ولا مغلوب. ومع ذلك يبدو طبيعيا جدا ان تفضي حفلة الزجل والمزايدات التي اطلقت على الغارب في شأن التدقيق الجنائي الى طرح الاسئلة الجوهرية الأساسية على السنة الناس:هل فعلا ستشهد مؤسسات الدولة اول واوسع عمليات تدقيق جنائي منذ تأسيس الجمهورية والدولة اذا سلمنا جدلا انها ستستكمل بعد التدقيق في حسابات مصرف لبنان ؟ ووفق أي آليات تنفيذية وقانونية وقضائية ستنطلق هذه”الثورة الإصلاحية ” بكل ما للكلمة من معنى؟. واذا كان التدقيق الجنائي في مصرف لبنان وحده استلزم هذا المخاض، وانتهى الى انتكاسة في مهده، فما هو الوقت المقدر لاعادة اطلاق العملية وإنجازها في المصرف المركزي وهل ستكون قمة برمجة زمنية واضحة ومحددة للانتقال تباعا الى عشرات المؤسسات الأخرى في الدولة ؟
يمكن طرح عشرات التساؤلات بطبيعة الحال حول الآليات التفصيلية للتدقيق الجنائي في كل مؤسسات الدولة والصناديق والمصالح المستقلة عقب القرار الذي انتهت اليه جلسة مجلس النواب امس، ولكن ذلك سيغدو ترفا مبكرا لا مكان له راهنا قبل فرز الخيط الأبيض من الخيط الأسود بين الدلالات الجادة لنتائج الجلسة وما اختلط فيها مما سمي حفلة مزايدات عارمة. والحال انه على صعوبة التنكر للطابع الساخر الذي اكتسبه الاجماع التعبيري والكلامي المزايد ومن ثم التأييد الجماعي للقرار الذي انتهت اليه الجلسة، فانه لا يمكن تجاهل بعض الخلاصات البارزة سياسيا في مناخ هذه الجلسة وحصيلتها. ذلك ان قرار تثبيت التدقيق الجنائي وتعميمه وتوسيعه وان ارضى رئيس الجمهورية وفريقه السياسي واعتبراه إنجازا للرئيس، فانه يعتبر ضمنا ردا ذكيا للكرة النارية التي أراد رئيس الجمهورية رميها في مرمى المجلس بحيث تلقفها رئيس مجلس النواب نبيه بري وقام بما يعرفه الجميع بتوليف الإخراج الحذق واطلقه بالتنسيق مع كتل أساسية كبيرة، فكان تعميم التدقيق الجنائي سحبا للبساط من تحت اقدام الفريق الرئاسي ومن يؤيده في حصر التدقيق بمصرف لبنان وحده. واما الدلالة الأخرى البارزة فتتمثل في ان الافرقاء (الثلاثة) الذين كانوا يحتكرون قبل الجلسة صفة التأييد وحدهم للتدقيق الجنائي ويعيرون الاخرين بانهم يناهضونه ويغمزون من قناة حمايتهم لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فقدوا هذه الورقة تماما بعد الاجماع النيابي على تأييد التدقيق الجنائي في كل مؤسسات الدولة بدءا بمصرف لبنان. واما الدلالة الثالثة البارزة فتتمثل في ان مجموع الكتل النيابية حاولت تحسين صورتها امام الرأي العام الداخلي، والاهم امام المجتمع الدولي، مع عودة تحرك المبادرة الفرنسية والاستعدادات التي تبذلها فرنسا لعقد مؤتمر دولي افتراضي في الثاني من كانون الأول المقبل لحشد المساعدات الإنسانية للشعب اللبناني، وهي تحسين صورة من خلال اطلاق رسالة جماعية عن تأييد مجلس النواب للتدقيق الجنائي الشامل المتكامل كاولوية إصلاحية مسلم بها في معايير المحاسبة الجنائية ومكافحة الفساد والمساءلة والسعي الى إحلال ثقافة الشفافية.
القرار ومفاعيله
واما القرار الذي خلصت اليه الجلسة وتسلمت نصه رئاسة الجمهورية مساء امس فيتسع لمروحة غير مسبوقة من المؤسسات والإدارات وينص على “اخضاع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة بالتوازي للتدقيق الجنائي من دون أي عائق او تذرع بسرية مصرفية او خلافه”. ويثير اتخاذ القرار مفعولا قانونيا جديدا لجهة انه يشكل تغطية لحاكمية مصرف لبنان في تسليم المستندات المطلوبة للتدقيق الجنائي من دون التوقف عند موجبات السرية المصرفية بعد الان الامر الذي يستدعي التساؤل هل انتهت السرية المصرفية في لبنان؟ واي تأثير لهذا التطور على المنازعات المتصلة بحسابات المودعين اذا استدعت رفعا للسرية المصرفية ؟ وهل يوجب الامر اصدار قانون وليس الاكتفاء بقرار؟
وقد استبق بري إقرار القرار المعد سلفا جماعيا فبادر مع بداية الجلسة الى “التمني مسبقا ان يجمع المجلس على التدقيق الشامل”، معتبرا ان رسالة الرئيس عون الى المجلس “جاءت في الوقت المناسب والى المكان المناسب وفي مرحلة حساسة “. وسارع الرئيس عون عقب انتهاء الجلسة الى اعتبار “تجاوب مجلس النواب مع رغبتنا في تحقيق التدقيق المالي الجنائي في مؤسسات الدولة وإداراتها إنجازا للبنانيين الذين يريدون معرفة من هدر مالهم واستباح رزقهم كما هو اطلالة مضيئة على المجتمع الدولي المتضامن معنا في معركتنا ضد الفساد والهدر”.
الوزير والقضاء
الى ذلك وعلى هامش الانشغال بالجلسة النيابية حصل صدام عنيف بين الجسم القضائي ووزير الداخلية في حكومة تصريف الاعمال محمد فهمي الذي شن هجوما لا سابق له على لسان وزير على الجسم القضائي ووصف في مقابلة تلفزيونية قضاة لبنان بانهم فاسدون بنسبة 95 في المئة منهم الامر الذي فجر غضبا قضائيا واسعا وردود فعل ساخطة. وعلى الأثر عقد مجلس القضاء الأعلى اجتماعا استثنائيا وقرر بالتوافق مع رئيس مجلس شورى الدولة ورئيس ديوان المحاسبة الطلب من النائب العام التمييزي اتخاذ الاجراء القانوني الملائم بحق وزير الداخلية بسبب ما صدر عنه في الحلقة التلفزيونية كما قرر الطلب الى رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل تقديم كل مراجعة قضائية لازمة. كذلك انتقدت نقابتا المحامين في بيروت وطرابلس الوزير فهمي بشدة لتعرضه لهيبة القضاء وطالبتاه “بإزاء تراكم التصرفات المشبوهة للوزير المستقيل لإعفاء نفسه من مهماته فورا وترك موقعه والرحيل على ان يكلف موقتا وزير الداخلية بالوكالة تسيير شؤون الوزارة الى حين تأليف الحكومة “.