“أصدقائي ليسوا من الأثرياء بل من عامة الناس”… أبشروا أيها اللبنانيون، فرئيس الجمهورية خاطبكم أمس بوصفه واحداً منكم يعيش بؤسكم ويستشعر معاناتكم. ألا تذكرون كيف أقام الدنيا ولم يقعدها عندما علم بوجود “قنبلة” كيماوية في وسط العاصمة وحال دون انفجارها؟ أنسيتم جولته التفقدية للأحياء المنكوبة في الرميل والمدوّر والأشرفية ووقوفه على خاطر المفجوعين؟ ألا ترونه الآن كيف يستعجل تأليف “حكومة المهمة” الإصلاحية حتى ولو لم يكن فيها “ثلث معطل” لصهره؟ أيُّ استغباء للناس وأيُّ ازدواجية بين القول والفعل؟ ليس كل الرعية غنماً يساقون ويُعلفون في مراعي الشعبوية، ثمة شعب عظيم بحق استفاق ذات تشرين وانتفض على منظومة المحاصصة والاستزلام، وهو لا يزال حياً وإن لم يعد يُرزق، يراقب ويراكِم غضباً على غضب بعدما نُهبت أمواله وأفلست أعماله، وبالجرم المشهود يرى يوماً بعد يوم كيف أن “العهد القوي” مستمر في المقامرة بمقدرات البلد ويُمعن في إغراق مراكب الإنقاذ وقطع حبل النجاة الفرنسي بغية الإبقاء على سطوة جبران باسيل عائمة فوق الأنقاض والأهوال.
وإذا كان باسيل الآمر الناهي في العهد العوني، واستفاد من غضّ “حزب الله” الطرف عن إمعانه في إفشال الحلول الحكومية جبراً لخاطره بعد إدراجه على قائمة العقوبات، يبقى الحزب في نهاية المطاف “المرشد الأعلى” يتربع على عرش المنظومة الحاكمة يأمر وينهى ويضع حداً لشطحات الحلفاء متى اعتبر أنّ الوقت حان لذلك. وعليه يبدو أنّ هامش المناورة بدأ يضيق أمام رئيس “التيار الوطني” لا سيما مع تأكيد أوساط معنية أنّ “حزب الله” دخل على خط لجم باسيل وكبح جماحه بعدما أدى قسطه التعطيلي مفعوله لتمرير قطوع الانتخابات الأميركية، لتصبح “كلمة السر” اليوم: “صار الوقت لإيجاد حل”.
وتوضح الأوساط، أنّ “حزب الله” الذي لا يريد المغامرة أكثر بإمكانية بلوغ لحظة انفجار اجتماعي لن تكون مناطق نفوذه بمنأى عن شظاياه “ارتأى مع وقوف الرئيس الديموقراطي جو بايدن على عتبة دخول البيت الأبيض مصلحة في إدارة محركاته باتجاه تذليل العقد أمام ولادة الحكومة لتكون بمثابة هدية إيرانية رمزية تثبت حسن النوايا إزاء الإدارة الأميركية الجديدة عبر الوسيط الفرنسي”، كاشفةً من هذا المنطلق عن “حراك مكثف يقوده حزب الله في الوقت الفاصل عن زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى بيروت للوصول إلى صيغة تفاهم يمكن التأسيس عليها حكومياً”. ووضعت الأوساط في هذا الإطار سلسلة مؤشرات تشي بأنّ باسيل “فهم الرسالة” فبادر إلى تظهير ليونة غير مباشرة في مقاربة الملف الحكومي، بدايةً عبر الحديث عن علاقة “غرام” تجمعه بالرئيس المكلف سعد الحريري، وصولاً إلى إبداء تكتله النيابي أمس الأول “الحرص على قيام حكومة في أسرع وقت ليستفيد لبنان من زيارة الرئيس الفرنسي” مع تأكيد “الاستعداد للمساهمة الإيجابية بكل ما يمكن للتأليف”.
وفي موازاة ذلك، استرعى الانتباه أمس دخول بكركي على خط المساعي الحكومية ومحاولة إيجاد أرضية مشتركة مع رئيس الحكومة المكلف في سبيل تقريب وجهات النظر بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون. وفي هذا السياق، برزت مساءً زيارة الحريري إلى الصرح البطريركي حيث استبقاه البطريرك بشارة الراعي إلى مائدة العشاء للتداول في المستجدات والمعوقات التي تحول دون تشكيل حكومة المهمة الإصلاحية.
ولفت الرئيس المكلف في حديثه مع الصحافيين إلى أنه وضع الراعي “في جو التشكيلة” التي قدمها لعون والتي تقوم على “اختصاصيين غير منتمين حزبياً، من أهل النزاهة والكفاءة القادرين على القيام بالإصلاحات المتفق عليها”، مشدداً أمامه على أنّ “الهدف ليس تشكيل حكومة كيفما كان، إنما وقف الانهيار وإعادة إعمار بيروت وهذا لا يتحقق إلا عبر القيام بالإصلاحات لإعادة تدفق التمويل باتجاه لبنان”.
وإذ تعوّل مصادر مواكبة لتطورات الملف الحكومي على أهمية زيارة الحريري إلى بكركي باعتبارها تندرج ضمن إطار “تصويب البوصلة وتبديد الهواجس التي تعمّد التيار الوطني إثارتها في نفوس المسيحيين من خلال التحريض على الرئيس المكلف واتهامه بالاستئثار بالتسميات المسيحية في الحكومة”، ذكّرت المصادر بأنّ “الحريري تبنى تسمية أربعة وزراء مسيحيين اختارهم رئيس الجمهورية في عداد التشكيلة العتيدة بينما المشكلة الحقيقية كانت في محاولة باسيل الاستئثار بالثلث المعطل في الحكومة”، مشيرةً في المقابل إلى أنّ “الرئيس المكلف لا يبدو في وارد الرضوح لهذا الشرط تحت أي ظرف، ولن يبادر إلى تقديم صيغ وزارية جديدة بعدما تبيّن أنّ القرار بالتعطيل متخذ مسبقاً بدليل تحضير تشكيلة مضادة لإحباط تشكيلته، علماً أنه كان قد أبدى لدى خروجه من لقاء بعبدا الأخير تفهمه لملاحظات رئيس الجمهورية وأعرب عن استعداده للتعامل معها بإيجابية”.
أما في مستجدات التحقيقات القضائية في قضية انفجار المرفأ، فكما كان متوقعاً انقضّت هيئة مكتب المجلس النيابي برئاسة الرئيس نبيه بري بقوة أمس على صلاحيات المحقق العدلي القاضي فادي صوان، فاستعادت نبش رسالته السابقة إلى المجلس لتقابلها بـ”رسالة مضادة” تطلب منه، بواسطة النيابة العامة التمييزية، تسليم المجلس النيابي “الملف الذي يحمل الشبهات الجدية” بالنسبة للأسماء التي شملتها الادعاءات بالإضافة إلى كل الأسماء الأخرى التي أوردها صوان في رسالته “ليُبنى على الشيء مقتضاه”.
وتوازياً، سلك الوزيران السابقان النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر مسار “الادعاء المضاد” على المحقق العدلي أمام محكمة التمييز طلباً لكف يده عن قضية التحقيق في انفجار المرفأ ونقل الملف إلى قاضٍ آخر بذريعة “الارتياب المشروع”. وعليه فإنّ صوان الذي جدد أمس استدعاء خليل وزعيتر إلى جلسة استجواب كمدعى عليهما في 4 كانون الثاني المقبل، سيكون مضطراً لوقف التعقبات بحق المدعى عليهم بمن فيهم رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بانتظار بتّ محكمة التمييز في دعوى كفّ يده.