في بلد يتنازع حكامه كراسي السلطة باسم الله والدين والطائفة والمذهب، وهم في حقيقة الأمر “لا ربّ لهم سوى مراكزهم ومصالحهم”، وفق توصيف المطران الياس عودة لحكّام لبنان، تضيق فسحة الرجاء بفرص الإنقاذ يوماً بعد آخر لجملة أسباب وشواهد، وفي مقدمها ما لمسه البطريرك الماروني بشارة الراعي جراء معاينته عن كثب للمعضلة الحكومية: “القرار مُصادَر وهناك من يرهن مصير لبنان بدول أخرى”. لكن ورغم هذا التشخيص الدقيق لمكمن الاستنزاف اللبناني، لا يبدو الراعي في وارد التراجع عن رفع راية الدولة في مواجهة مشروع إسقاطها، “ولن يستكين في إعلاء صوت الحياد السيادي الإيجابي فوق كل اعتبار يعلي المصالح الخارجية على المصلحة الوطنية”، كما نقل زوار بكركي من المهنئين بعيد الميلاد.
وكما مشروع الحياد واضح المعالم والمرامي في طرح البطريرك الماروني الإنقاذي للدولة تصدياً لكل “من يراهن على سقوطها لانتزاع الحكم”، كذلك مشروع الالتصاق بمشروع إيران في المنطقة كان واضحاً في “حوار العام”، الذي أطل به الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله على اللبنانيين أمس، لا سيما وأنّ “محور حديثه واهتمامه تعاطى بشكل هامشي مع معاناة اللبنانيين وأزمة البلد، وتركز بشكل أساس على كيفية تكريس لبنان كجبهة إسناد للمحور الإيراني في المنطقة”، حسبما رأت أوساط سياسية في الرسائل التي وجهها نصرالله في مواجهة الغرب والعرب، تحت مظلة الذكرى السنوية لاغتيال اللواء قاسم سليماني.
وفي معرض حديثه عن إيران بوصفها “القوة الإقليمية العظمى”، توقفت الأوساط عند سلسلة مؤشرات تؤكد التعامل مع لبنان “كساحة إيرانية”، بدءاً مما كشفه نصرالله عن توليه شخصياً مهمة “تصدير صواريخ كورنيت من لبنان إلى قطاع غزة بطلب من سليماني”، مروراً بإعلانه جاهزية “محور المقاومة” لمواجهة أي فعل عسكري يمكن أن يقوم به الرئيس دونالد ترامب “الغاضب المجنون” في آخر ولايته ضد طهران، وصولاً إلى التحضير للمواجهة التي ستحصل “في يوم من الأيام” بين المحور الإيراني وأميركا وإسرائيل، واعتباره أنّ فعل الانتقام لدماء سليماني “ليس واجباً إيرانياً فقط”.
أما عن إشارة الأمين العام لـ”حزب الله” إلى ضرورة انتظار “الإدارة الأميركية الجديدة التي يقال إنّ لديها موقفاً مختلفاً في بعض الأمور”، فلاحظت الأوساط نفسها أنها تتصل في أحد أبعادها “بموقف الحزب الحقيقي من الملف الحكومي، ما يشي بأنّ التأليف بات بحكم المؤجل عملياً إلى ما بعد 22 كانون الثاني المقبل”، وهو هامش زمني يستفيد منه راهناً رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل لوضع العراقيل أمام ولادة الحكومة العتيدة “بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن حزب الله”، مذكرةً بأنّ البطريرك الماروني لم يتوانَ عن التشديد بشكل صريح على كون “وضع الشروط والمعايير المستحدثة يربط تأليف حكومة لبنان بصراعات المنطقة والعالم”، متسائلاً: “أيُّ ضمير يسمح بربط إنقاذ لبنان بصراعات لا علاقة لنا بها لا من قريب ولا من بعيد؟”.
وفي المقابل، سار باسيل على خطى رئيس الجمهورية ميشال عون في معايدة بكركي “عن بُعد” مع تكليفه وفداً من تكتل “لبنان القوي” بزيارة الصرح البطريركي، لمعايدة الراعي غداة اعتذار عون عن المشاركة في قداس الميلاد، وهو ما وضعه مراقبون في خانة إبداء الاستياء العوني من مضامين المواقف التي أطلقها البطريرك الماروني، غداة الإخفاق الرئاسي في تشكيل الحكومة قبل عطلة الأعياد. في حين أتى الإعلان عن مغادرة رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري لبنان في زيارة عائلية أمس، ليعكس عقم المحاولات الآيلة إلى استيلاد الحكومة قبل نهاية العام والتسليم بترحيل هذه المهمة إلى العام الجديد.
وفي هذا الإطار، تحدثت مصادر مواكبة للملف الحكومي عن ترقب “دخول فرنسي مباشر مطلع العام على خط الحقائب التي يدور الخلاف حولها بين عون والحريري”، ولم تستبعد أن يشهد الشهر المقبل “زيارات فرنسية إلى بيروت للضغط باتجاه حل هذا الخلاف، عبر طروحات تركز بشكل مباشر على حقيبة العدل عبر إلحاق التسميات المقترحة لتوليها، بالحقائب الوزارية الأخرى التي يجب أن تتولاها شخصيات اختصاصية غير محسوبة على أي جهة سياسية، لما لوزارة العدل من دور أساسي في المرحلة المقبلة، حيث ستكون أمامها استحقاقات تحتاج إلى تكريس مفهوم استقلالية القضاء في مهمات الإصلاح ومكافحة الفساد”.