كتبت صحيفة “الديار” تقول: كان لتصريح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الأخير الذي أدّلى به عن “أن زمان تثبيت سعر الصرف قدّ ولّى”، وقع كبير على المواطنين لناحية المخاوف من حصول إرتفاع جنوني لسعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة في حال تم تحرير سعر الصرف في هذا الوقت. هذا الأمر إستدعى توضيحًا من قبل سلامة لوكالة رويترز أكّد فيه أن هذه العملية لن تتمّ إلا في ظل توافق مع صندوق النقد الدولي.
هذا التصريح يُعيد إلى الواجهة مُشكلة سعر الصرف والتي أصبحت مادّة إعلامية أساسية منذ بدء الأزمة في شهر أيلول من العام 2019 وما تبعها من تردٍ لسعر صرف الليرة مُقابل الدولار في السوق السوداء.
العملة تعكس ثروة البلد وهويته
للعمّلة وظائف تُستخدم من أجلها فهي وسيلة للتبادل، ووحدة حساب، ومخزن للقيمة. لكن هناك أيضًا وجه آخر للعملة فهي أكثر من وسيلة تبادل في الإقتصاد ولا يقتصر دورها على التبادل التجاري فقط، بل تتمتّع أيضًا بأبعاد إستراتيجية كتعزيز الهوية الوطنية وإعطاء اللون السياسي للحكومات. لذا نرى في الديمقراطيات، أن الرأي العام يتأثر بقيمة العملة وقوّتها وبالتالي فإن توقعات دائمة بإنخفاض العملة تُثير الرأي العام ضدّ السلطة السياسية وتؤدّي إلى خسارتها في الإنتخابات.
تنصّ النظرية الإقتصادية على أن العملة تعكس ثروة البلد! فإن كان البلد غنيًا بثرواته الطبيعية وإقتصاده، كلما كانت عملته قوية والعكس بالعكس. وبالتالي يأتي الإستقرار بالعملة ليدلّ على الإدارة الإقتصادية والمالية والنقدية السليمة للسلطات السياسية والنقدية. فالبلد الذي يُعاني من إقتصاد ضعيف أو من مالية عامّة مُتردّية، ينعكس هذا الضعف تلقائيًا في العملة الوطنية.
وتتأثر قيمة العملة بعدد كبير من العوامل، منها ما هو إقتصادي (السياسة الإقتصادية للحكومة)، سياسي (سياسة الحكومة الداخلية والخارجية)، نقدي (السياسة النقدية)، مالي (وضع المالية العامّة)، وقانوني (القوانين المرعية الإجراء). وبالتالي فإن سوء هذه العوامل يؤدّي إلى تردّي قيمة العملة وبالتالي إلى تردّي الوضع الإجتماعي. ولتردّي قيمة العملة له أيضًا تداعيات على نفسية المواطن من ناحية شعوره بخطر الفقر، لذا يعمد إلى التخلّص من عملته الوطنية وشراء عم لة صعبة أو سلعة ثمينة مما يخلّق بحدّ ذاته ضغطًا على العملة الوطنية عملا بقانون الأعداد الكبيرة.
العملة المستقرة هي العملة التي تؤدي وظائفها على أفضل وجه وذلك بفضل إستقرار قوتها الشرائية. هذا الربط بين العملة ومستوى الأسعار يسمح بطرح مؤشّر لإستقرار العملة وهو مؤشر أسعار الإستهلاك (CPI) والذي يقيس مدى ثبات الأسعار؛ وبالتالي فإن التغيّرات السنوية لهذا المؤشر تُشير إلى مدى إستقرار الأسعار ومعها إستقرار العملة. المعطيات العملانية تُشير إلى أن مستوى إرتفاع في الأسعار أقلّ من 2% للإقتصادات الكبيرة و4 إلى 5% للإقتصادات الصاعدة هي نسب جيدة.
الدراسات العملانية أثبتت أن الثبات النقدي يُمكن تأمينه من خلال الإنضباط المالي للدولة وسياستها الإقتصادية وقوانينها، وبالتحديد يُمكن القول أن ثبات النموّ مُرتبط بشكل كبير بالثبات النقدي فلا يُمكن لأي دوّلة ضمان ثبات عملتها إذا لم يتمّ تخفيف التغيّرات في النمو الحقيقي (GrowthVolatility). ويُمكن أيضًا ضمان الثبات النقدي من خلال تكوين إحتياط من العملات الصعبة في المصرف المركزي، إلا أن هذا الخيار إذا كان مُتاحًا لبعض الدول فإنه يتأثر بشكل كبير بالعلاقات السياسية الخارجية للدولة المعنية.
الثبات النقدي وتداعياته
الثبات في الأسعار هو عنصر أساسي في المجتمعات من ناحية أنه يسمح بتحسين مستوى معيشة الفرد وإستقرارها (أساسي في أي سياسة إقتصادية) ويُقلّل من الغموض الذي قدّ يلف تطوّر الأسعار في المُستقبل وبالتالي يُقلّل من كلفة التحوّط من تداعيات التضخّم (primesde risques). هذا الأخير والذي يُعرف بأنه إرتفاع مُستدام في الأسعار، له تداعيات سلبية على الإقتصاد وعلى المواطن، لذا يأتي لجم التضخّم كعنصر أساسي في السياسات الإقتصادية ويُبرّر إعطاء المصارف المركزية إستقلالية عن السلطة السياسية في ما يخص خيار السياسة النقدية. هذا الفصل بالطبع لا يعني أن كل فريق (السلطات الحكومية والسلطات النقدية) يعمل على مزاجه بل أن التعاون في ما بينهما يجب أن يكون تكامليًا. وقد أثبتت التجارب التاريخية أن الحكومات تستخدم عملية طبع العملة كأداة لإنقاذ نفسها من سياساتها الإقتصادية والمالية، لذا تمّ فصل السياسة النقدية عن السياسة المالية.
إذًا مما تقدّم، نرى أن الثبات النقدي هو عنصر من عناصر الأمن الإجتماعي لا بل يُمكن القول هو العنصر الأول من دون تردّد. فمن خلال إلقاء نظرة على البلدان التي تعصف بها أزمات سياسية وفوضى إقتصادية، نرى أن عملاتها ليست ثابتة، لا بل على العكس، نرى أن التضخّم ينخر هذه الإقتصادات. من هنا يُمكن تشبيه التضخّم على أنه مرض إذا ضرب الجسم الإقتصادي، لا يُمكن التخلّص منه إلا بإجراء إصلاحات جذرية وقوية على مثال ما حصل في الماضي في ألمانيا خلال الحرب العالمية. وعلى هذا الصعيد، يُمكن الجزم أن ألمانيا هي البلد الوحيد في العالم إلى الآن الذي إستطاع أن يخرج من حلقة التضخّم المُفرط من خلال العمل على هيكلية الإقتصاد.
التنبؤ بسعر الصرف
سعر صرف العملة هو نتاج طبيعي للعرض والطلب سواء أكان سعر الصرف ثابتًا أم متحركًا. والمعروف في العلوم الأساسية أن الإنسان إستطاع نمذجة كل الظواهر الطبيعية والإجتماعية باإستثناء عقل الإنسان حيث يتمّ إستخدام أرقام عشوائية لخيارات الإنسان (RandomDistributions) في النماذج الحسابية. هذا الأمر، أعني مبدأ إبتداع الأرقام العشوائية في خيارات الإنسان، له تداعيات مباشرة على سعر صرف العملة من ناحية أنه ناتج عن عرض وطلب، ومن ناحية أنهما من خيار الإنسان المبني أصلا على العشوائية وبالتالي تعمد السياسات الإقتصادية والمالية والنقدية إلى التأثير على خيارات الإنسان، ومن هنا تبرز لدينا أهمّية عامل الثقة في نجاح هذه السياسات.
نظريًا من المُستحيل التنبؤ الدقيق بسعر صرف عملة وهذا الأمر مُثبت علميًا من خلال الحسابات الستوكاستيكية (Stochastic Calculus)، إلا أنه وعمليًا يعمد بعض المحللين التقنيين (Technical Analysts) إلى ملاحقة نماذج تُسمّى “CommonBehavior” في البيانات التاريخية للعملة ويُحدّدون من خلالها توجّه الأسعار التقديرية بناءً على هذه النماذج والتحاليل. أيضًا ومن خلال الحسابات والتوقّعات الإقتصادية، إعطاء هامش لسعر الصرف المُتوقّع عبر تحديد هامش مُرجّح أن يتواجد فيه.
وعلى صعيد الحسابات الستوكستيكية، أي طريق (path) الذي يتبعه سعر الصرف مع مرور الوقت، لا يُمكن تكراره أي المرور فيه مُجدّدًا وذلك لإستحالة إعادة الظروف نفسها للمسار العشوائي الذي يتبعه سعر صرف العملة، وهذا ما يُسمّى بديناميكية سعر الصرف التي تتبع معادلات حسابيات عشوائية أو غير حتمية.
سعر صرف الليرة بين التنبؤات والواقع
عند خروج لبنان من الحرب الأهلية، كان سعر صرف الدولار في السوق السوداء يُقارب الثلاثة آلاف ليرة. هذا السعر كان يعكس بالدرجة الأولى الواقع السياسي والإقتصادي القائم آنذاك. وقد آلت الخيارات النقدية إلى تثبيت سعر صرف الدولار مُقابل الليرة اللبنانية في العام 1997 داخل هامش حدّده مصرف لبنان بناءً على أربعة أعوام (1993 إلى 1997) من سعر صرف السوق.
إلا أن المشاكل الإقتصادية التي عانى منها لبنان آنذاك وضرورة إجراء إصلاحات إقتصادية، كل ذلك دفع بصندوق النقد الدولي إلى الطلب من السلطات اللبنانية تحرير سعر صرف الليرة وذلك منذ العام 2000. هذا الأمر تمّ رفضه آنذاك من قبل السلطات اللبنانية بحجّة أن أي تحرير لسعر الصرف سيؤدّي حكمًا مع الظروف السياسية القائمة في ذلك الوقت إلى تراجع سعر صرف الليرة بشكل كبير. من هذا المُنطلق تمّ إطلاق مؤتمري باريس 1 و2 على أساس دعم الإقتصاد ونهوضه وتمّ توقيع معاهدة التبادل التجاري مع الإتحاد الأوروبي بهدف مُساعدة لبنان في تصدير مُنتجاته.
حصيلة البيدر إختلفت عن حسابات المزارع، فقد تم تنظيم خمسة مؤتمرات للبنان (باريس 1، 2 و3 وستكهولم، وسيدر) ولم يقم لبنان بأية إصلاحات أو سياسات إقتصادية تسمح لإقتصاده بدعم عملته الوطنية التي بقيت ثابتة حتى العام 2019 بفضل إحتياطات مصرف لبنان التي تمّ تغذيتها من إستقطاب رؤوس الأموال.
وهنا يُطرح سؤال أساسي: لماذا لم يُحرّر مصرف لبنان سعر صرف الليرة منذ زمن طويل مع معرفته المُسبقة أن النظام السياسي غير قادر على القيام بإصلاحات في ظل تخبّط سياسي كبير (أكثر من مئات الأزمات السياسية منذ نهاية الحرب الأهلية) وتفشي فساد أطبق على الأخضر واليابس؟ هذا السؤال يجب أن يوجّه إلى السلطات النقدية، إلا أنه وباعتقادنا إن ثبات سعر صرف الليرة يدخل ضمن الأمن الغذائي للمواطن وضمن تطوره الإجتماعي وهذا حقّ من حقوق الإنسان المنصوص عليها في شرعة حقوق الإنسان الذي ساهم لبنان بقّوة في وضعها.
إذًا المُطلع على الواقع الإقتصادي، كان يعلم أنه من دون إقتصاد قوي ومُنتج، هناك إستحالة لضمان ديمومة سعر صرف الليرة. واليوم يطرح البعض مقولة أنه كان يتوجّب تحرير سعر الصرف منذ زمن طويل. إلا أن هذا الأمر يبقى عرضة للأخذ والردّ في ظل أهمية راحة المواطن والتي كان من الواجب الحفاظ عليها من خلال وقف الفساد والتهريب والعجز في الموازنة.
تعويم الليرة… مُمكن؟
هناك نوعان من تعويم سعر صرف العملة: التعويم الخالص وهو الذي ينصّ على ترك تحديد سعر الصرف من قبل السوق عبر آلية العرض والطلب على أن تمتنع الحكومة والمصرف المركزي من التدخل، وأمّا التعويم الموجّه فينص على ترك سعر الصرف للعرض والطلب مع تدخل من قبل مصرف لبنان لتوجيه السعر في حال كان هناك فجوة بين العرض والطلب.
في لبنان، تعويم سعر الصرف من دون دعم خارجي وبالتحديد من قبل صندوق النقد الدولي سيؤدّي حكمًا إلى إرتفاع سعر الدولار مُقابل الليرة في إقتصاد يعتمد على 85% من إستهلاكه الغذائي على الإستيراد. ومع تفشّي ظاهرة التهريب، من المُمكن أن يتطوّر هذا السعر إلى مستويات قد تتخطّى قدرة كثير من المواطنين اللبنانيين على تحمّلها وهو ما سيدفع 90% منهم تحت عتبة الفقر وأكثر من 50% تحت عتبة الفقر المُدقع (مدخول أقل من 1.9 دولار أميركي للشخص).
إذًا العقل والمنطق يستدعيان أن يتمّ تحرير سعر الصرف، الذي أصبح محتومًا نظرًا إلى تراجع القدرات المالية في لبنان، تحت غطاء صندوق النقد الدولي القادر على تأمين أمرين أساسيين للبنان: أولا دعم مالي نقدي بالدولار الأميركي، وثانيًا غطاء قانوني دولي يحمي لبنان من تخلفه عن دفع سندات الخزينة. والجدير ذكره أن حكومة الرئيس حسان دياب التي حاولت عدّة مرّات القيام بإتصالات مع جهات عربية لدعم لبنان بالمال، حصلت على جواب أن على الحكومة اللبنانية التفاوض مع صندوق النقد وأن هذه الدول مُستعدة لدعم لبنان من خلال صندوق النقد.
إذًا لماذا صرّح حاكم مصرف لبنان أن زمن تثبيت سعر الصرف ولّى؟ أغلب الظنّ أن هذا التصريح يأتي في سياق دق ناقوس الخطر عن قدرة مصرف لبنان على الإستمرار في الحفاظ على سعر صرف ثابت، والدفع باتجاه تشكيل حكومة. وما يدفعنا إلى القول به هو أن تشكيل الحكومة قد يمتدّ إلى فترة أطول خصوصًا إذا علم المعنيون بتشكيل الحكومة أن هناك هامشاً ما يزال قائمًا.
سعر دولار السوق السوداء
نسمع كل يوم تنبؤات عن سعر صرف الدولار الأميركي مُقابل الليرة اللبنانية والأرقام التي تُعطى تتراوح بين 4000، 5000، 8000 ومنهم من يتحدّث عن 15000 ليرة للدولار الواحد. في الواقع أي عملية تنبؤ لسعرصرف عملة هو أمر شبه مُستحيل بالمطلق نظرًا إلى الخللّ الموجود في المعلومات المُتوافرة في السوق. وبالتالي فإن هذا الخلّل يحجب قسمًا من المعلومات الضرورية لأي عملية تنبؤ بسعر الصرف خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الإعتبار قانون الأعداد الكبير والذي يجعل أي مُعتقد عن عامة الشعب حقيقة في السوق أي بمعنى أن معتقدات وتصورات عامة الشعب تصبح متحكمة في السوق من خلال انعكاسها على عملية العرض والطلب. وفي عملية حسابية لقياس مُعدّل التغيّرات في سعر صرف الدولار مُقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء (Volatility)، قمنا بإستخدام نموذج إحصائي (Garch(1,1)) حيث تُشير النتائج (أنظر إلى الرسم) إلى أن هذه التغيّرات هي نتاج لا عقلانية تقودها مراهنات من قبل التطبيقات الموجودة على الأجهزة الخليوية خصوصًا في المرحلة التي سبقت جريمة المرفأ. عمليًا قبل تخلّف الدولة عن دفع سندات اليوروبوندز، كان سعر صرف السوق السوداء نتاجًا كاملا للعامل السياسي والمضاربة. إلا أنه ومنذ 7 أذار 2020، أصبح العامل الإقتصادي والنقدي مع طبع كمّيات كبيرة من الليرة اللبنانية لتغطية طلبات المودعين وعجز الموازنة عاملا وازنًا في تدهور سعر الصرف خصوصًا أن توافد الدولارات إلى لبنان قلّ بشكل كبير.
المُحاكاة الستوكاستيكية التي قمّنا بها عبر إستخدام سعر صرف السوق السوداء وعبر إستخدام التغيّرات التاريخية (HistoricalVolatility) والتغيّرات المُستخرجة من Garch، أوصلتنا إلى نتيجة أن هامش التحرّك مفتوح ولا يُمكن حصره برقم نظرًا إلى غياب القيود على حركة سعر صرف الدولار (مثلا منع التهريب، وقف المضاربة، وقف التطبيقات#0236). والجدير ذكره أن عتبة الـ 4000 ليرة للدولار الواحد تمّ وضعها بُعيد تقرير مالي دولي ورد فيه أن هذا السعر هو الأقرب للسعر الحقيقي وبالتالي تمّ إعتماده من قبل حكومة حسان دياب ومن قبل مصرف لبنان على المنصة الإلكترونية.