بدءاً من اليوم، يدخل تعطيل تأليف الحكومة شهره الرابع، وليس في الافق ما يؤشّر الى انفراج قريب، وسط انقطاع خطوط التواصل والتفاهم بين القصر الجمهوري وبيت الوسط، والاستبدال الذي يبدو متعمّداً لمنطق التوافق على الاستيلاد السريع لحكومة تتولى زمام أمور البلد في أسوأ مرحلة يمرّ فيها، بمنطق التصادم والافتراق، يُترجَم بورشة حفر يوميّة ومتواصلة للتعميق الاضافي لهوّة الخلاف المستحكم بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري.
يتّضح من عمق من هذا الخلاف أنّ الأفق مسدود بالكامل في غياب الارادة الجدية والصادقة لتأليف الحكومة، ذلك أنّ المشترك بين عون والحريري، ليست إرادة التأليف، بل النفور السياسي والشخصي، وهذا ما يؤكّده العاملون على ردم الهوّة بينهما، ولا تنفيه أوساطهما، يضاف الى ذلك تغليب سياسة النوافذ والابواب المغلقة على أيّ محاولة لإحداث اختراق في جدار التباين بينهما، تنفذ منه الحكومة المعطّلة الى حيّز الولادة، وهذا الشعور المتبادل يُنذر بمزيد من الدوران في الحلقة الاشتباكية بينهما، والمفتوحة على شتى الاحتمالات.
السفراء: الوضع شاذ!
واذا كانت هذه الصورة الخلافية المتفاقمة بين عون والحريري قد بعثت الملل لدى اللبنانيين الذين وصلوا الى مرحلة اليأس من إمكان تفاهم الرئيسين، إلّا أنّها تعبّر في نظر أصدقاء لبنان عن «وضع شاذ ولا بدّ من تجاوزه والخروج منه، خصوصاً انّ المجتمع الدولي يَئس من المسؤولين في لبنان وعدم استجابتهم للتحذيرات والنصائح التي تُسدى إليهم»، وبحسب ما ينقله ديبلوماسيون عرب من القاهرة عن أوساط قريبة من الجامعة العربية الى بعض كبار المسؤولين «فإنّ استمرار الوضع الشاذ هذا، قد يجرّ على لبنان مخاطر كبرى من شأنها أن تضحّي به وباللبنانيين، وتزيد من خطر الاخلال بالاستقرار في هذا البلد».
مجموعة الدعم
وفي السياق نفسه، علمت «الجمهوريّة» أنّ جهات حكوميّة تلقت أجواء وصفت بـ»غير المطمئنة» من مجموعة الدعم الدولية من اجل هذا البلد، تعكس «قلق مجموعة الدعم من تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية فيه، وازديادها صعوبة وسوءاً، في ظل انعدام وسائل علاج ومواجهة هذه الأزمة».
كما تعكس أجواء مجموعة الدعم الدولية للبنان «شعوراً بالإحباط من تَعامل القادة اللبنانيين مع الملف الحكومي»، و»أسفاً بالغاً للتأخير الذي يبدو مفتعلاً في تشكيل حكومة تتولى تطبيق إصلاحات بشكل عاجل، تستجيب من خلالها لطموحات الشعب اللبناني، وما يطالب به المجتمع الدولي لخروج لبنان من أزمة هي الأخطر في تاريخه».
ووفق ما كشفته الجهات الحكوميّة، فإنّ مجموعة الدعم تحذّر «من وضع اكثر صعوبة، فيما لو مضى القادة في لبنان في مزيد من التأخر في إدراك أنّ الحاجة التي باتت ماسّة لاتفاقهم على تشكيل حكومة تنفذ خطة إصلاحات ومعالجات فورية، الى جانب المهمة الاساس في مواجهة فيروس كورونا، خصوصاً انّ التقارير تفيد بأن الشعب اللبناني بات يرزح تحت ثقل وضع مأساوي مخيف».
البنك الدولي
يُشار في هذا السياق الى ما أعلنه مدير دائرة المشرق في البنك الدولي ساروج كومار من أن جزءاً كبيراً من الشعب اللبناني أصبح تحت خط الفقر»، وأعرب عن تخوّفه من «انّ لبنان سيواجه وضعاً صعباً، وسيصل الى أماكن لم يتمكن من حلها كلما تأخرت عملية الاصلاح». وقال: «المؤسف اننا نرى انّ الامور تتدهور، والناس يخسرون سبل عيشهم، وهذا الأمر ازداد سوءاً بعد انفجار مرفأ بيروت».
وكشفَ في جانب آخر «أنّ البنك الدولي سيساعد لبنان للحصول على لقاحات لسكانه لمواجهة فيروس كورونا»، كما كشف عن مساعدة البنك في تأمين لقاح آخر غير فايزر، عبر تمويل جزئي له، على ان تقوم الدولة بتمويل الجزء الآخر، لافتاً الى انّ البنك الدولي يعمل مع الحكومة اللبنانية ومنظمات دولية عالمية لوضع مخطّط لتوزيع اللقاح بطريقة منصفة عادلة شفافة، وسيتم إعلان خطة التلقيح قبل البدء بالتوزيع، وهو شرط من شروط البنك الدولي.
ما يجدر ذكره هنا انّ عدد الاصابات بفيروس كورونا التي تم تسجيلها امس بلغ 3220 اصابة و57 حالة وفاة، ما يرفع العدد الاجمالي للاصابات الى 272411.
غضب فرنسي
على أنّ الاجواء القلقة التي تعكسها أجواء مجموعة الدعم، تتقاطع مع أجواء مماثلة نقلتها مصادر ديبلوماسية من باريس، تعكس حالاً من عدم التفهّم النهائي، تسود المستويات الفرنسية، خصوصاً في الايليزيه ووزارة الخارجية الفرنسية، لمسار تعطيل الحكومة في لبنان.
واذا كانت باريس، كما تشير المصادر، ما زالت تعتبر انّ المبادرة الفرنسية تشكل فرصة الحل للبنان، الّا انها اشارت الى انّ جدول الاعمال الفرنسي خالٍ حالياً من اي حراك فرنسي في اتجاه الدفع بهذه المبادرة من جديد، خصوصاً انّ في جدول الأولويات الفرنسية في هذه المرحلة بنداً وحيداً هو الضغط الذي يفرضه تفشي كورونا على المجتمع الفرنسي وكيفية مواجهته، الّا انّ هذا لا يعني عدم حصول تحرّك فرنسي حيال لبنان في أي وقت».
ولفتت المصادر الى «أنّ باريس مدركة تماماً للاسباب الحقيقية لتعطيل تأليف الحكومة، الا انها لا تتفهّم تجاهل القادة اللبنانيين للمبادرة الفرنسية وتجاوزها، والتعاطي معها وكأنها قد انتهت».
ووفقاً للاجواء التي تعكسها المصادر الفرنسية، فإنّ ما يحذّر منه المسؤولون الفرنسيون هو انّ الوقت لا يلعب لصالح لبنان، بل على العكس، وانّ وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان، عندما وَصَّف حال لبنان بسفينة التايتانيك، كان يأمل ان يتلقّف القادة في لبنان هذا التحذير، ولكن ما حصل هو عكس ذلك.
وتعكس المصادر الديبلوماسية ما يقوله مسؤولون فرنسيون معنيون بالملف اللبناني بأنّ «باريس قد منحت القادة في لبنان فسحات من الوقت لكي يعيدوا حساباتهم، وحذّرتهم من انهم إذا لم يُقدموا على ذلك، فسيلحق الضرر البالغ بلبنان. وسَعت بداية ً،عبر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وكذلك مع وزير الخارحية وايضاً مع الموفد الفرنسي باتريك دوريل، لتحقيق هذا الهدف وحمل اللبنانيين على التوافق، لكنهم مع الأسف استمروا في اتّباعهم السياسة العبثية، وإبقاء البلد في دائرة التخبط والحكومة في دائرة الفراغ، ومن شأن ذلك أن يدفع السفينة الى الغرق بالكامل والارتطام بالقعر».
وكشفت المصادر عن أنّ «جهات لبنانية» سَعت في الآونة الأخيرة الى تدخل فرنسي مباشر، «وكان تأكيد من قبل الجهات الفرنسيّة بأنّ باريس هي على التزامها بمساعدة لبنان، الّا انّ الوضع الخطير فيه يوجِب على القادة السياسيين أن يُنَحّوا خلافاتهم جانباً، ويتفاهموا في ما بينهم، ويتعاونوا في تشكيل حكومة وفق المبادرة الفرنسية، وهو ما سبق وأكد عليه الرئيس الفرنسي».
واشنطن: لا مبادرات
على انّ الصورة في الجانب الأميركي، وعلى ما تنلقه شخصية سياسية معروفة بتعدد صداقاتها الاميركية، لا تحمل اي مؤشرات حول حضور اميركي في الملف اللبناني في هذا الوقت، ذلك أنّ الادارة الاميركية الجديدة برئاسة جو بايدن حدّدت سلّم أولوياتها. ما يعني أنّ أجندتها اميركية قبل أي أمر آخر، والاساس فيها مكافحة كورونا واعادة توحيد المجتمع الاميركي بعد الانقسام الذي شهده مع الانتخابات الرئاسية.
وتشير تلك الشخصية الى انّ خلاصة الموقف الاميركي من لبنان في هذه المرحلة، هي ان لا مبادرات اميركية من أي نوع تجاه لبنان، ما خَلا التأكيد على الموقف التقليدي حول الاستقرار السياسي والامني فيه وضرورة الحفاظ عليه والحؤول دون ان يتعرّض لأيّ انتكاسة.
خطان لا يلتقيان
تتزامن هذه الأجواء العربية الدولية مع وصول العلاقة بين عون والحريري الى حد الغليان، وتَمَترس كلّ منهما خلف منصة السجال، وإطلاق رسائل مباشرة وغير مباشرة تؤكد التباعد بينهما، ووقوفهما حيال تأليف الحكومة كخطين متوازيين لا يلتقيان لا طوعاً ولا عبر وسطاء. ولقد تُرجِم ذلك بسجال بينهما عَكسَ انّ «أزمة الفيديو» وما تضمّنه من كلام جارح من قبل الرئيس عون بحق الرئيس الحريري، لم تنتهِ بعد، بل ما زالت في دائرة التفاعل.
بيت الوسط
في هذا السياق، اشارت مصادر مقربة من بيت الوسط الى انّ الرئيس المكلف تعامَلَ منذ اللحظة الاولى لتسريب «الفيديو» وما تضمنه من عبارات لا تليق بمستوى التخاطب بين الرؤساء، بما يستحق.
وقالت المصادر انّ الجهة التي تحدثت عن رسالة وجّهها الرئيس المكلف الى رئيس الجمهورية في هذا الاطار، تَقصّدت نقل رسالة مفادها انّ «عون لن يبادر الى الاتصال بالحريري ودعوته الى لقاء معه في القصر الجمهوري اذا لم يَلمس تغييراً في مواقفه المتصلبة والذهاب الى تشكيل حكومة وفق معايير سبق له ان أثارَها معه، الامر الذي يؤكد اصرار قصر بعبدا على تبنّي معايير جبران باسيل في تشكيل الحكومة على رغم النفي المتواصل لذلك». ولفتت المصادر الى أن «رسالة الرئيس الحريري الى من يعنيهم الأمر، واضحة ولم تتبدّل: حكومة بمعيار الدستور والمصلحة الوطنية والقواعد التي حدّدتها المبادرة الفرنسية… وخلاف ذلك دوران في حلبات الإنكار».
بعبدا
وفي وقت لاحق، رد مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية على ما وصفها «تحليلات ومقالات تتناول موقف رئيس الجمهورية بقصد التشويه والايحاء بأنه هو الذي يضع العراقيل في مسيرة التشكيل في وجه الرئيس المكلّف»، وأكد على الآتي:
أولاً: انّ رئيس الجمهورية لم يطلب الحصول على الثلث المعطّل.
ثانياً: انّ النائب باسيل لم يتعاط في عملية التشكيل مطلقاً، وللتكتل مواقفه السياسية التي يعبّر عنها.
ثالثاً: غير صحيح في المطلق أنّ «حزب الله» يضغط على رئيس الجمهورية في مسألة تشكيل الحكومة، لأنّ الحزب لا يتدخل في أي قرار لرئيس الجمهورية، بما في ذلك تأليف الحكومة.
رابعاً: انّ اختيار الوزراء وتسميتهم وتوزيعهم على الحقائب، ليس حقاً حصرياً لرئيس الحكومة استناداً الى البند الرابع من المادة 53 والبند الثاني من المادة 64 من الدستور، ما يدلّ على انّ للرئيس عون حقاً دستورياً بأن يوافق على التشكيلة الحكومية كاملة قبل التوقيع.
خامساً: ليس لرئيس الجمهورية ان يكرّر دعوة رئيس الحكومة المكلف الى الصعود الى بعبدا، ذلك انّ قصر بعبدا لا يزال بانتظار أن يأتيه رئيس الحكومة المكلف بطرحٍ حكومي يراعي معايير التمثيل العادل. وأشار المكتب الاعلامي أخيراً الى «انّ الظروف ضاغطة جداً على أكثر من صعيد لتأليف الحكومة».
رد الحريري
ورد المستشار الإعلامي للرئيس المكلف، حسين الوجه، على بيان المكتب الاعلامي في رئاسة الجمهورية، سائلاً: «هل نحن أمام توضيح من رئاسة الجمهورية ام أمام نَفي باسم الوزير جبران باسيل؟
وقال: إنّ «أحداً لا يناقش في صلاحيات رئيس الجمهورية في اصدار مرسوم تشكيل الحكومة بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء وفقاً للمادة 53 من الدستور، وعلى توقيع مرسوم التشكيل بعد ان يجري رئيس مجلس الوزراء الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة وفقاً للمادة 64 من الدستور. مع خطّين تحت تشكيل الحكومة».
ولفتَ الوجه الى انه «اذا كانت الظروف ضاغطة جداً لتأليف الحكومة، فالأجدى بمَن يعنيهم الأمر السّير بطرح رئيس الحكومة المكلف الموجود لدى الرئاسة الاولى الذي يراعي التمثيل العادل وفقاً للدستور، وليس وفقاً للحصص السياسية والحزبية».
الوجه: يتشاطرون
وقال الوجه لـ»الجمهورية»: إنهم يمارسون لعبة تشاطر مكشوفة، ولن تؤدي الى اي نتيجة… فالرئيس المكلف سبق أن قام بما عليه لناحية إعداد تشكيلة حكومية وأودَعها رئيس الجمهورية، الذي وعد بأن يدرسها، وما زلنا ننتظر نتيجة هذه الدراسة، وما هي ملاحظاتهم؟ وهل هذه التشكيلة ميثاقية ام غير ميثاقية؟ هل تضم شخصيات كفوءة او غير كفوءة؟ وان يحددوا اي ثغرات تعتريها؟ وهذا ما يجب ان يشرحوه للبنانيين.
غضب وقرف
هذه الأجواء الخلافية والسجالية على خط التأليف، دفعت بأحد كبار المسؤولين الى التعبير بغضب وقرف في آن معاً، ممّا بلغه الوضع، حيث قال لـ»الجمهورية»: عندما يسود الحقد تُعمى الابصار، وهو في النتيجة لا يوصِل سوى الى مزيد من الافتراق. وأيّاً كان الأمر لا يجب ان يدمج الحقد مع السياسة فهما معاً لا يمكن ان يستقيما، لا بل يزيدان الامور تعصّباً وتعصيباً، وهذا ما نعانيه اليوم في ملف تأليف الحكومة.
اضاف: ما يؤسِف هو انّ هذا الوضع مستمر، ولا شيء يبدو قادراً على وقف هذا الحقد، البلد في حال فراغ حكومي منذ آب الماضي، وكل يوم مرّ على لبنان منذ آب وحتى اليوم، أصعب من سابقه، وكل يوم فيه من الاسباب والدوافع الى تشكيل حكومة، ما يوجِب على المسؤول ان يكون مسؤولاً بالفعل، والذهاب فوراً الى تشكيل الحكومة، وليس ارتداء ثياب القتال والنزول الى حلبة السجال والاشتباك، على ما هو حاصل بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف.
وأعرب المسؤول المذكور عن تشاؤم كبير حيال إمكان حصول اتفاق على تشكيل حكومة، وقال: كيف يمكن ان يصلوا الى تفاهم؟! لا اعرف كيف، فلا وساطات نجحت، ولا مبادرة فرنسية نجحت، ولا مبادرة كنسية، ولا انفجار مرفأ بيروت ولا انفجار الليرة والدولار، ولا انفجار كورونا ولا انفجار المجاعة التي بدأت تطرق أبواب اللبنانيين… نجحت في إيقاظ الشعور بالمسؤولية والحِس الوطني لدى معطّلي الحكومة لأسباب لا علاقة لها بمصلحة البلد لا من قريب او من بعيد.
ورداً على سؤال حول كيفية الخروج من هذا الانسداد، قال المسؤول عينه: مع هذا الجو لا يوجد مخرج، وأخشى انّ هناك من بدأ يستطيب استبدال جلسات مجلس الوزراء بجلسات مجلس الدفاع الأعلى. صار لا بد من صدمة توصِل الى مخرج وحلّ، ولكن ما هي هذه الصدمة؟ لا أعرف!