لولا صوت البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، الذي لا يوفِّر مناسبة إلاّ ويذكِّر خلالها بضرورة تشكيل حكومة، وآخرها في عظته أمس في بكركي، لكان الانطباع أنّ البلد «في ألف خير»، ولا حاجة الى حكومة، خصوصاً وانّ المعنيين بالتأليف يتعاملون إما ببرودة تامة مع هذا الملف، او بتراشق سياسي وإعلامي، فيما الأوضاع تزداد سوءاً، والخشية من انفجار اجتماعي أصبحت وكأنّها واقعاً، في اللحظة التي تنحسر فيها كورونا بعد الإقفال واستقدام اللقاح. واللافت في موقف البطريرك، انّه بعد تساؤلات عدة حول أسباب عدم تأليف الحكومة، وانعكاس هذا الفراغ على البلد مالياً وسياسياً وشعبياً، وضع الكرة مجدداً في ملعب رئيس الجمهورية بقوله، انّ «المبادرة في هذا الاتجاه ترفع من شأن صاحبها في نظر الناس والعامّة، وتدلّ الى روح المسؤولية»، وذلك في استكمال لموقفه الأحد الفائت، عندما دعا رئيس الجمهورية ميشال عون مباشرة إلى «أخذ المبادرة بدعوة دولة الرئيس المكلّف إلى عقد اللقاء بينهما، لأنّ الوقت لا يرحم، وحالة البلد والشعب المأسوية لا تبرّر على الإطلاق أي تأخير في تشكيل الحكومة». ويرى المراقبون، انّ موقف الراعي دلّ الى أزمة صامتة بين بكركي وبعبدا لم تنفع معها زيارات الموفدين، فيما لا يبدو انّ رئيس الجمهورية، الذي لم يتجاوب مع دعوة البطريرك الأولى، سيتجاوب مع الدعوة الثانية. ومن الواضح انّ بكركي منزعجة من تفشيل مبادرتها، التي كان يعوّل عليها لفتح باب التأليف وترييح الناس الخائفة على حاضرها ومستقبلها، في بلد تحوّل فيه الفراغ إلى قاعدة بدلاً من ان يكون مجرد استثناء عابر.
أبلغ مصدر قريب من رئيس الجمهورية الى «الجمهورية»، انّ المطلوب من الرئيس المكلّف سعد الحريري «ان يتحرّر من هواجسه واسقاطاته، وان يزور القصر الجمهوري متسلحاً بإرادة جدّية لتشكيل الحكومة»، داعياً ايّاه الى ان يصارح عون بمخاوفه الكامنة وأسبابه الحقيقية التي لا تزال تمنعه من انجاز التأليف العادل، «وهو سيجد عندها كل استعداد لدى رئيس الجمهورية لمساعدته في تجاوز العقبات، وسيكتشف انّ رئيس الجمهورية لا يريد من الحكومة الجديدة شيئاً لنفسه».
واشار المصدر، الى انّ رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل على بينة مما يجري في الملف الحكومي، «لكن القرار النهائي في كل تفصيل يعود حصراً الى عون، ومن يظن العكس، يكون لا يعرف بعد من هو ميشال عون او يتظاهر بأنّه لا يعرفه».
ولفت المصدر، الى انّه ينبغي أن يتعاطى الحريري مع المكون المسيحي كما يتعاطى مع المكونات الأخرى لا أكثر ولا أقل، «وليس مطروحاً ان يمنحه اي امتيازات».
مسعى «الحزب»
في هذا الوقت، يكثر الحديث عن مسعى سيتولاه «حزب الله» لتقريب وجهات النظر بين عون والحريري، في ظل سؤال أساسي: هل سيلاقي مسعى الحزب مصير المساعي السابقة نفسه، أم سيتمكن من تحقيق الخرق المطلوب بينهما تمهيداً لولادة الحكومة؟ وأي نجاح لمبادرته مرتبط بالتعهدات التي من المرجح ان يأخذها على عاتقه بين الفريقين، في ظلّ أزمة الثقة بينهما.
وقالت مصادر مطلعة لـ«الجمهورية»، إنّ الأكيد انّ كل الأعذار والحجج المرتبطة بالإدارة الأميركية السابقة، والعقوبات التي كان من المحتمل ان ترفعها في وجه الحكومة العتيدة، سقطت مع رحيلها وتسلُّم إدارة جديدة، يصعب ان تتفرّغ لملفات المنطقة، واستطراداً لبنان، قبل النصف الأول من العام الحالي، ما يعني انّ هناك متسعاً من الوقت للتأليف وتهيئة الخطط الإصلاحية المطلوبة، لأنّ الوضع اللبناني لم يعد يحتمل الاستمرار في السياسة الانتظارية نفسها.
في بعبدا و«بيت الوسط»
وفي هذه الأجواء، لم تظهر في اجواء قصر بعبدا و«بيت الوسط» اي مؤشرات الى تحريك ملف تشكيل الحكومة، في موازاة غياب واضح على مستوى الوساطات الخارجية والداخلية على حدّ سواء.
وكشفت مصادر سياسية مطلعة لـ«الجمهورية»، أنّ الوساطات التي حصلت خلال الأسبوع الماضي وفي ما قبله، بقيت من دون اي نتيجة، طالما انّها لم تنجح على الأقل في تجديد اللقاءات التقليدية والمطلوبة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، وتحديد موعد اللقاء الخامس عشر الذي لم يُعقد بعد.
وعليه، تضيف المصادر نفسها، لم يبقَ في الميدان سوى مبادرة البطريرك الماروني، الذي عبّر بكل خطواته عن انّه ماض الى النهاية في طرحه، ويضيء على كل العقبات التي تواجه عملية التأليف، وصولاً الى إشارته امس الى التفسيرات المتبادلة للصلاحيات الدستورية.
وقد سأل البطريرك الراعي في عظة الاحد امس، «كيف يمكن الإمعان في المواقف السياسية المتحجّرة الهدّامة للدولة كياناً ومؤسسات دستورية؟ بأي ضمير وطني، وبأي مبرّر، وبأي نوع من سلطان وحق، وبتكليف مِن مَن؟»، وعرض الراعي بصيغة تساؤلات، للأسباب التي تفرض تأليف الحكومة، وسأل: «هل من عاقل يصدّق أنّ الخلاف هو في تفسير مادة من الدستور واضحة وضوح الشمس؟»، وقال: «أيها المسؤولون، الدستور وضع للتطبيق لا للسجال، وليكون مصدر إتفاق لا مصدر خلاف. أمام التحدّيات المصيرية، ترخص التضحيات الشكلية، ويكفي أن تكون النية سليمة. وفي كل حال، المبادرة في هذا الإتجاه ترفع من شأن صاحبها في نظر الناس والعامة، وتدل الى روح المسؤولية». واعتبر انّه «لو كان الحياد قائماً في لبنان ما كنا لنشهد أي أزمة دستورية، بما فيها أزمة تأليف الحكومة حالياً. فعلاوة على المصالح الفئوية التي تفرز الأزمات والحروب في لبنان، يبقى السبب الرئيسي هو الإنحياز وتعدّد الولاءات». وقال: «إنّ خلاص لبنان يقتضي أن تنظر الأسرة الدولية إلى قضيته بمعزل عن أي ارتباط بقضية أي بلد آخر قريب أو بعيد». وأمل من الرئيس الأميركي الجديد «أن ينظر مع إدارته إلى قضية لبنان بهذه النظرة، من دون ربطه بأي بلد آخر، وأن يساهم في إبعاده عن النزاعات الإقليمية، ودعم مشروع حياده كمدخل لإستعادة استقراره وازدهاره».
قراءة ديبلوماسية سلبية
والى هذه الأجواء السلبية التي لم تحمل ما يوحي بإمكان تجدّد الإتصالات الى افق غير محدّد الى الآن، قالت مصادر ديبلوماسية غربية في قراءتها للتطورات المحيطة بالملف اللبناني لـ«الجمهورية»، انّ ما يجري هو «عملية انتحار وقتل متبادلة وجريمة يرتكبها الجميع عن قصد او غير قصد، ولا يعتقدن أحد أنّه سيكون في منأى عن تردّداتها وما هو متوقع من سلبيات. فالجميع سيدفع الثمن ومن كل الأطراف المتنازعة، هذا عدا عن استدراج اللبنانيين الى مكان ما لا يتمناه احد، وسيصلون الى مرحلة يفتقدون فيها الحق في الندم تجاه ما هو متوقع من تطورات وعلى اكثر من مستوى.
فالمنطقة دخلت في مدار جديد مع بداية عهد جديد في الإدارة الأميركية، وانّ لبنان سيبقى الى أمد غير منظور خارج دائرة الاهتمامات، وما لم تكتمل مؤسساته الدستورية سيكون خارج دائرة التفاهمات من دون معرفة الجهة التي يمكن ان تتبنى رعاية مصالحه. عدا عن القطيعة الشاملة التي تنامت مع العرب والغرب، الى درجة اوحت بغياب الحراك الديبلوماسي، ودخلت البلاد مرحلة غياب هذا التمثيل عن لبنان بالفاعلية التي يتمناها اي مسؤول».
الحريري
في غضون ذلك، كشفت مصادر «بيت الوسط»، انّ الحريري ما زال في بيروت خلافاً لما يُشاع، وانّ سفره المرتقب سيُعلن عنه في حينه، لأن ليس في الأمر سراً، فهو من كشف انّه يحضّر لزيارات عدة سواء الى فرنسا او أي دول أُخرى..
وفي هذه الاثناء، تطرّقت رئيسة كتلة «المستقبل» النيابية بهية الحريري امام زوارها امس، الى أزمة تشكيل الحكومة، فقالت، «إنّ الرئيس الحريري لا يدخر جهداً من أجل تحقيق ما يريده اللبنانيون، وهو كان أول من تجاوب مع مطالب الناس ولا يزال وسيبقى الى جانب الناس، وهو رغم كل العراقيل والصعوبات مستمر في العمل، على أن يكون للبنان عاجلاً أم آجلاً حكومة مهمة من إختصاصيين تكون كما يدل عليها إسمها، لتوقف انهيار اقتصاد البلد وتضعه مجدداً على سكة النهوض».
لبنان وسويسرا والتحويلات
على صعيد آخر، سيحضر اليوم ملف التحويلات المالية التي تخص حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان حويك والتي يدقق فيها القضاء السويسري، في مكتب وزير الخارجية شربل وهبه، الذي تلقّى طلباً عاجلاً من السفيرة السويسرية مونيكا شموتز كيرغوتس لزيارته اليوم، للبحث في ما آلت اليه هذه القضية، بعد المساندة القضائية التي قدّمها لبنان للقضاء السويسري والمراحل اللاحقة المحتملة التي فرضها استعداد سلامة للمثول امام القضاء السويسري، من دون المعونة او الوساطة اللبنانية المطلوبة، وفي الوقت الذي يحدّده هذا القضاء، ومع اي كان من المعنيين بالملف.
وهبه لـ «الجمهورية»
وعشية لقاء مع السفيرة السويسرية، كشف وهبه لـ «الجمهورية»، انّه حدّد لها موعداً اليوم، من دون ان يسألها مبتغاها، لمجرد انّها طلبت لقاء عاجلًا ام تفصح مسبقاً عمّا تريده. وقال: «الملف القضائي المطروح بات موضوع مراسلات مباشرة بين القضاءين السويسري واللبناني، ونحن على ثقة بالطرفين، ولو لم يكن الملف دقيقاً لما جرت المراسلات مباشرة بين القضاء السويسري ووزارة العدل اللبنانية معبراً الى القضاء اللبناني».
وعندما قيل له انّ هذه المراسلات لم تمرّ عبر وزارة الخارجية وفق الاصول الديبلوماسية، قال وهبه: «المهم ان تكون النتائج التي يسعى اليها القضاء متوافرة وممكنة. فالملف المطروح له ظروفه الطارئة لربما، وهذا ما سأستوضحه غداً (اليوم) من السفيرة السويسرية مباشرة، بالإضافة الى المعطيات التي يجب ان نكون على اطلاع في شأنها. ولا استبعد انّ لدى القضاء السويسري معطيات دقيقة استوجبت التعاطي بهذه الطريقة، ولا بدّ من الانتباه اليها وتقديرها بدقة».
كورونا
وعلى الصعيد الصحي، وفيما ستُطلق اليوم منصة التسجيل في شأن اللقاحات المنتظر أن يبدأ وصولها الى لبنان خلال الشهر المقبل، أعلنت وزارة الصحة العامّة أمس في تقريرها اليومي حول مستجدات فيروس كورونا، تسجيل 3010 إصابات جديدة (2994 محلية و16 وافدة) ليصبح العدد الإجمالي للإصابات منذ شباط من العام الماضي 279597 اصابة. وكذلك تمّ تسجيل 50 حالة وفاة جديدة، ليصبح العدد الإجمالي للوفيات 2340 حالة.
الحريري
وفي غضون ذلك، لفتت مصادر «بين الوسط»، الى انّ الحريري سيعقد اليوم وغداً مجموعة من الاجتماعات الحزبية الالكترونية، اولها على مستوى هيئة رئاسة تيار «المستقبل»، وثانيها لكتلة «المستقبل» النيابية، لمواكبة الاستعدادات المطلوبة لمواجهة جائحة الكورونا والتخفيف قدر الإمكان من حجم انتشارها بين اللبنانيين، وضرورة تعزيز الثقة بالتزام الحَجر المنزلي تجنباً لما هو اخطر مما نشهده يومياً من وفيات بالعشرات واصابات بالآلاف.
وهبه والمغتربون
على صعيد آخر، كشف وزير الخارجية والمغتربين شربل وهبه لـ«الجمهورية»، انّه عمّم على السفارات اللبنانية حول العالم السعي لدى المغتربين اللبنانيين والهيئات المدنية والاممية القادرة، لتوفير الدعم الذي تحتاجه البلاد من المعدات الطبية والادوية على انواعها، ولا سيما منها تلك الخاصة بمواجهة وباء كورونا، تقديراً منا للقدرات اللبنانية في الخارج وحجم استعداداتهم لمساعدة اهاليهم، سواء عن طريق المؤسسات الرسمية او عبر النوادي والبلديات والهيئات المجتمعية.