عدا عن “البقرات السبع” التي عادت سالمة غانمة إلى مراعي الوطن أمس بعد اتصالات مع اليونيفيل أفضت إلى إطلاقها من جانب إسرائيل، ليس ثمة من يشعر في هذه الجمهورية بوجود الدولة. فالشعب بنظر أهل السلطة أقل شأناً حتى من “قطيع الدواب”، عليه واجب الكدح كفاف قوته من دون أن ينتظر لا زاداً ولا علفاً من الدولة في مواجهة أزمة التصحّر المالي والحياتي، وكذلك مقياس صمود الناس بات مرهوناً بمدى اكتسابهم “مناعة القطيع” صحياً وسياسياً، وإن شذّ أحدهم عن الخطوط العريضة التي خطّها “محراث” الحكم، سارعوا إلى تصنيفه في مصاف الخراف الضالة أو المدسوسة الواجب اجتثاثها من عداد القطيع.
فبعدما نهبت أموالهم وقطعت أرزاقهم وقادتهم إلى أسفل سافلين اقتصادياً ومعيشياً، لا تزال السلطة بفائض وقاحتها تطرح علامات استفهام وتعجّب تشكّك بدوافع الناس إن هم ثاروا تعبيراً عن جوع يتآكلهم، فيصبح من العجب العجاب أن يتظاهر الطرابلسيون ويفجروا غضبهم في الشارع رفضاً للموت البطيء على مذبح الانهيار والعوز، لتسارع الطبقة الحاكمة على الفور إلى استنفار أدوات التخوين والقمع في مواجهتهم، وصولاً إلى التصويب عليهم بالرصاص الحيّ كما حصل ليلاً في ساحة النور وسواها، حيث وضعت فوهات بنادق السلطة الطرابلسين بين مصيرين لا ثالث لهما: عيشوا من قلّة الموت أو موتوا “عالسكت”!
ولم يكن ينقص أهل طرابلس سوى رئيس حكومة “ماريونيت” تتلاعب به أصابع السلطة لكي يلصق بوجعهم تهم “التخريب وتوجيه الرسائل السياسية”، بينما رئيس الجمهورية الذي لم يعد لديه ما يخسره شعبياً، بعدما خسر اللبنانيون “الأولى والآخرة” في عهده، يتعامل بكثير من البرودة مع أوجاع الناس ويتعامى عن الواقع الاجتماعي المزري الذي بلغه الناس في ظل حكمه، لا بل هو كان، بحسب مصادر سياسية مواكبة، “حازماً خلال الساعات الأخيرة في توجيهاته للأجهزة العسكرية والأمنية بوجوب إنهاء الاحتجاجات في طرابلس بأي ثمن”، لا سيما وأنّ الدوائر الرئاسية وضعت مسوغات استخدام الشدة في مواجهة الطرابلسيين في إطار “التصدي للرسائل السياسية التي تستهدف الرئيس ميشال عون عبر افتعال تحركات شعبية ضده”.
وفي المقابل، استرعت الانتباه أمس انتفاضة روحية ضد قلة “أمانة” و”مسؤولية” الطبقة السياسية الحاكمة في البلد، خرج في ضوئها رؤساء الطوائف الإسلامية والمسيحية بعد تواصلهم للتداول في “مآلات الوضع المأسوي الراهن على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية”، بموقف مشترك توافقوا بموجبه على أنّ عرقلة عملية إنقاذ اللبنانيين ناتجة عن “حسابات خاطئة وخلافات شخصية يدفع الشعب ثمنها غالياً جداً”.
وأكد البيان باسم “أصحاب الغبطة والسماحة والسيادة” إدانة استمرار هذه السياسات والخلافات الشخصية في “جرّ لبنان إلى الطريق المسدود” بما يتناقض مع “أمانة الحكم”، فأعربوا في المقابل عن تمسكهم بجملة ثوابت تنطلق من وجوب “الولاء للبنان” والنأي به عن “الصراعات الخارجية وحساباتها الاستغلالية”، مروراً بالتشديد على قواعد الشراكة التي أرساها اتفاق الطائف “بعيداً من أي شكل من أشكال الإبتزاز”، وصولاً إلى اعتبار ما يجري من “صراعات وخلافات” مناقضاً لما يقتضيه الحكم من “مسوؤلية وأمانة” وهو ما أدى إلى “استجرار لبنان إلى الهاوية التي يقف اليوم على مشارفها”.
وإزاء ذلك، دعا رؤساء الطوائف إلى وجوب “العمل فوراً على تشكيل حكومة مهمة وطنية مترفعة عن الحسابات الشخصية والفئوية، تتجاوز تفاصيل المحاصصات التي تخضع للإبتزاز والإبتزاز المعاكس”، مؤكدين أنه “ما عاد السكوت ممكناً على هذا الوضع الكارثي والمأسوي” القائم، ومشددين على أنّ لبنان ليس في أزمة سياسية فقط بل هو “في صلب أزمة أخلاقية كبرى”، وتوجهوا إلى المسؤولين بالقول: “الشعب اللبناني ضاق ذرعاً بهذا السلوك وهذا التخلي عن مصالحه الأساسية (…) أوقفوا العبث بمصير الوطن والدولة، فالشعب لن يغفر والتاريخ لن ينسى”.