في بحر السلبيات التي يعوم عليها البلد، طافت على سطح المشهد الداخلي، ما يمكن اعتبارها الإيجابية الوحيدة التي يشهدها لبنان منذ ما يزيد على السنة، وتجلّت في رسم خريطة وصول اللقاحات لمكافحة فيروس كورونا، والشروع في بدء التلقيح اعتباراً من النصف الثاني من شباط المقبل، ومع ذلك تبقى العبرة في صدق الوعود بوصول اللقاحات في الموعد المحدّد، وكذلك في عدالة توزيعها واجرائها في آن معاً، وما عدا ذلك، أزمات مفتوحة بعضها مشتعل، وبعضها الآخر جمر حارق تحت الرماد.
في السياسة، يسود اهتزاز كامل في المشهد الداخلي، فمن جهة انسداد تام في مسار تأليف الحكومة، توازيه رهانات متجددة يعلّقها المستعجلون على تشكيل الحكومة، على انطلاق القطار الفرنسي في رحلة جديدة نحو لبنان، حاملاً عناصر ومقويات للمبادرة الفرنسية، تجعلها اكثر فعالية وقدرة على إلزام اطراف تعطيل التأليف بالالتزام الفعلي بهذه المبادرة، وتشكيل حكومة وفق مندرجاتها. ومن جهة ثانية، حراك اتخذ منحى عنفياً، ظهر في توقيت واحد وفي اماكن متعددة، وتثار حوله تساؤلات عن الجهات المحرّكة له والغاية المتوخاة منه في هذا التوقيت بالذات.
الحراك ليس يتيماً!
بالتأكيد، أنّ هذا الحراك ليس يتيماً، وبالتالي ليس عفوياً، ومع تخفّي المحرّك لما جرى في الساعات الأخيرة، خلف الصورة، سُجّي هذا الحراك على حلبة التعطيل الحكومي كمادة اتهامية متبادلة بين المعطلين، بأنّ التحركات العنيفة التي شهدتها بعض المناطق، وغالبيتها تخضع للون طائفي وسياسي معيّن، واستمرت بالأمس وتحديداً في ساحة عبد الحميد كرامي في طرابلس، ما هي الّا رسالة ضغط من طرف على طرف، لحمله على التراجع عن شروطه التي يطرحها في ما خصّ تأليف الحكومة.
وكانت قيادة الجيش قد اعلنت امس، أنّ 31 عسكرياً أصيبوا بجروح مختلفة ورضوض جراء تعرّضهم للاعتداء والرشق بالحجارة وقنابل المولوتوف والمفرقعات النارية من قِبل عدد من المحتجين، أثناء تظاهرات شهدتها مدينة طرابلس امس الاول الثلثاء. كما تضرّرت آليات عسكرية وعتاد، وقد تمّ توقيف 5 أشخاص لإقدامهم على التعدّي على الأملاك العامة والخاصة وافتعال أعمال شغب والتعرّض للقوى الأمنية. وبوشر التحقيق بإشراف القضاء المختص.
اتهامات
وإذا كان بعض الأصوات المحيطة بـ»التيار الوطني الحر» قد اشارت بشكل مباشر الى دور لتيار «المستقبل» في تحريك هذه التجمعات الإحتجاجية، فيما برز في المقابل نفي مصادر «المستقبل» عبر «الجمهورية» ما سمّتها «الإتهامات المفلسة»، بالتوازي مع كلام مباشر للرئيس المكلّف سعد الحريري اعتبر فيه انّه قد تكون وراء التحرّكات في طرابلس جهات تريد توجيه رسائل سياسية، وقد يكون هناك من يستغل وجع الناس والضائقة المعيشية التي يعانيها الفقراء وذوو الدخل المحدود. وليس هناك ما يبرّر الإعتداء على الأملاك الخاصة والاسواق والمؤسسات الرسمية بحجة الإعتراض على قرار الإقفال.
وجهان للأزمة.
امّا في الجانب السياسي لأزمة التأليف، فبحسب المعلومات التي وقفت عليها «الجمهورية» من مصادر موثوقة، يمكن تلخيص الصورة كما يلي:
– اولاً: انّ كل الوساطات التي جرت في الآونة الاخيرة، ومعظمها بمبادرات شخصية، وليست بالتكليف من أي جهة سياسية، اصطدمت بالفشل.
– ثانياً، إصرار طرفي الخلاف الحكومي على شخصنة الأزمة بينهما، ورفضهما الإعتراف بالأمر الواقع المأزوم، والتواضع امام تعاظم الأزمة الداخلية على كل المستويات، وارتفاع معدلات الفقر الى مستويات مخيفة تلامس الـ80% من الشعب اللبناني.
– ثالثاً، انّ عِقَد التأليف لها وجهان:
– الأول ظاهر، ومرتبط بشكل الحكومة وحجمها وحصّة كل طرف، ويُترجم بخلاف «قاطع وصعب» على مثلث رئيس الجمهورية العماد ميشال عون – رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل – الرئيس المكلّف. ويتركّز حول النقاط الخلافية المعلنة اي: الثلث المعطّل الذي يطالب به عون وباسيل ويرفضه الحريري، حجم الحكومة والصراع على إبقائها من 18 كما يريد الحريري، وعلى رفعها الى 20 وزيراً كما يريد عون وباسيل، الصراع على وزارتي الداخلية والعدل، والثلث المعطل الذي يريده عون وباسيل ويرفضه الحريري. وكذلك تسمية الوزراء التي يصرّ عليها الحريري مقابل رفض عون التخلّي عن هذا الحق، وكذلك رفض تهميش مكوّن وازن في البلد، وايضاً رفض تجاوز الدستور وحق رئيس الجمهورية في هذه التسمية وإبداء رأيه في كل الوزراء.
– الوجه الثاني، سياسي، عنوانه رفض التنازل للآخر، المتبادل بين رئيس الجمهورية وباسيل والحريري، عن اي من الشروط التي وضعها على حلبة التأليف. وكلا الطرفين حاسمان في هذا المجال. وأما جوهره، فهو وصول الطرفين الى مرحلة الطلاق النهائي بينهما، وتحت عنوان واجواء «التيار الوطني الحر» لا تنفي الرغبة في إقصاء الحريري عن التكليف، وهو امر يدركه الحريري، ومن هنا يأتي تمسّكه الصارم بورقة التكليف الى ما شاء الله.
خلفيات الصراع
وربطاً بجوهر الأزمة، فإنّ مصادر واسعة الإطلاع تشرح لـ»الجمهورية» خلفيات الأزمة بين شريكي التأليف، وتقول: بعيداً من المصطلحات التي احاطت تعطيل تأليف الحكومة، والنعوت التي أُطلقت على مقاربة الرئيسين لملف التأليف من صبيانية وشخصانية واهتراء سياسي وانعدام مسؤولية، فهناك في البلد معركة سياسية حامية الوطيس بين نقيضين، اي رئيس الجمهورية ومعه «التيار الوطني الحر» وما يمثل، والرئيس سعد الحريري ومعه تيار «المستقبل» وما يمثل. في قلبها صراع حقيقي وكبير على كيفية ادارة البلد، وصراع على الصلاحيات، وكل طرف منهما قد رمى اوراقه كلها على الطاولة، بما يعني انّهما يلعبان «صولد» مقابل بعضهما البعض.
حكومة الإستحقاقات
وبحسب المصادر المذكورة، والمطلّعة عن كثب على خلفيات الخلاف، فإنّ الحكومة الجديدة، قد تكون حكومة الاستحقاقات والمهمات الكبرى، ليس لامتلاكها قدرات خارقة، لأنّها تأتي في فترة تصبح فيها تلقائياً ممسكة، الى جانب مهمتها الأساسية التي قد تُشكّل على اساسها وتُسمّى «حكومة مهمّة»، بمفاصل اساسية، من لحظة تشكيلها وحتى انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، حيث انّها ستكون مشرفة على جملة استحقاقات، اولها الانتخابات النيابية ربيع العام المقبل، وكذلك الاستحقاق الرئاسي في الخريف، واستحقاق الانتخابات البلدية، وكذلك الاستحقاق الذي قد يفوقها اهمية وهو استحقاق الخيارات الاقتصادية للبنان، وهي خيارات محل تناقض حاد بين عون وفريقه والحريري وفريقه.
من يتحكّم بالسنتين؟
من هنا تقول المصادر، فإنّ كلا الطرفين ينطلقان نحو هدف واحد، وهو من يمسك بالسلطة التنفيذية من الآن وحتى نهاية ولاية الرئيس ميشال عون. وتحت عنوان «انا الحاكم وحدي بأمر الحكومة»، فكلاهما يسعيان الى اثبات نفسيهما على باب الحكومة، وان يكون كل منهما صاحب اليد الطولى في الحكومة، باعتبارها فرصة لترميم النفس والعودة الفاعلة الى قلب المشهد السياسي. فرئيس الجمهورية، اولويته ان يجعل من الفترة المتبقية من ولايته، فترة تعويضية عن الفشل في تحقيق إنجاز ما في السنوات الاربع الماضية من الولاية، اضافة الى السعي جدّياً الى محاولة ترميم التصدّعات التي أصابت «التيار الوطني الحر» الذي لا يزال الرئيس الأساس لهذا التيار، وهذا قد يتأمن في حكومة تكون له كلمته العليا فيها، متسلحاً بشخصه وموقعه الرئاسي، وبنوع الوزارات التي ستُسند الى فريقه، وكذلك بالثلث المعطل فيها، ومثل هذه الحكومة بالتأكيد لا تكون برئاسة سعد الحريري.
والامر نفسه، تضيف المصادر، بالنسبة الى الرئيس الحريري، الذي يريد الإستفادة من تجربة العلاقة السابقة مع عون وباسيل، وكذلك من تجربة الإخفاق في الانتخابات النيابية الماضية، وذلك عبر تشكيل حكومة وفق فهمه للدستور والطائف، ويكون فيها صاحب الكلمة والقرار، ينتهج فيها سلوكاً وخيارات سياسية واقتصادية تمكّنه من اعادة استنهاض جمهوره وشدّ عصبه، وبالتالي ترميم كل الصدوع التي اصابت تيار «المستقبل» في السنوات الاخيرة.
صراع متكافئ
الّا انّه مع احتدام وتيرة الصراع بين التيارين، لا يبدو أنّ أياً منهما قادر على ان يملي ارادته على الآخر، وصولاً الى الحكومة التي يريدها، فعون متسلح بقلمه، والحريري متسلّح بتكليفه. وفي ظلّ القرار النهائي الذي يبدو انّهما توصّلا اليه، فلا تنازل او تراجع من قِبل اي منهما امام الآخر، ما يعني انّ المراوحة السلبية، وربما الصدامية بين وقت وآخر بينهما، ستستمر الى فترة طويلة جداً.
ماذا عن الفرنسيين؟
الى ذلك، يبقى الحضور الفرنسي على مسرح التأليف من جديد، في دائرة الرصد الداخلي، من دون ان تبرز اي مؤشرات حول ما اذا كان هذا الحضور سريعاً او انّه مؤجل الى وقت لاحق.
وعلى ما تقول مصادر على صلة بالفرنسيين لـ»الجمهورية»، فإنّ اي خطوة فرنسية محتملة في اتجاه لبنان، مرتبطة بالتوقيت الفرنسي، للظرف الملائم الذي قد يحضرون فيه، بعد تهيئة الظروف الموضوعية لإنجاح هذا الحضور وتحقيق الغاية المرجوة منه وصولاً الى تشكيل حكومة وفق مندرجات المبادرة الفرنسية. لكن الاكيد انّ الحراك الفرنسي تجاه لبنان لن يكون بعيداً، وقد يكون المطبخ الفرنسي المعني بلبنان قد بدأ في إعداد الوجبة الملائمة التي ستقدّم على المائدة اللبنانية.
الّا انّ مصادر ديبلوماسية مواكبة للتطورات والمتغيّرات الدولية التي بدأت تتسارع مع الادارة الاميركية الجديدة، تلفت الى انّ ثمة حقيقة يجب ان تكون ماثلة امام كل اللبنانيين، وهي أنّ لبنان هو الطبق الاخير على مائدة الرئيس الاميركي جو بايدن، وليس عنواناً او بنداً قائماً بذاته، يتطلب فرد حيز من الوقت له لإيجاد سبل معالجة ازمته المتشعبة سياسياً واقتصادياً، اضافة الى المشكلة الاساس في نظر الاميركيين، المتمثلة بصواريخ «حزب الله»، بل أنّ وضع لبنان مرتبط بملفات اخرى في المنطقة، بدءًا من الملف النووي الايراني وصولاً الى الملف السوري المرشح الى مزيد من التصعيد في هذه المرحلة.
وبناءً على ذلك، تلفت المصادر ايضاً، الى انّ ما اشار اليه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بعد اتصاله المطوّل مع الرئيس الاميركي عن تعاون محتمل حول لبنان، لا يعني انّ هذا التعاون قد حصل، وربما يحصل او لا يحصل في المستقبل، فهو خاضح للتقدير الاميركي ومصلحة واشنطن فيه. الاّ انّ الاميركيين قد لا يكونون ممانعين لأي حضور فرنسي متجدّد في لبنان، ان اراد الفرنسيون ذلك، الّا انّهم لن يكونوا عاملاً مساعداً بشكل مباشر للمهمة الفرنسية.
وتخلص المصادر الى القول، انّ الرئيس الفرنسي راغب بقوة في تحقيق انجاز لبناني، سبق له ان اعلن انّه علّق كل رصيده السياسي عليه، وهو في هذا السبيل خاض تجربة صعبة حينما دخل الى لبنان في ظل ادارة دونالد ترامب، التي واكبته بافتعال معوقات له، فإنّه في ظلّ الادارة الاميركية الجديدة، فإنّ ماكرون مرشح لأن يلعب دوراً اكبر واكثر راحة مما كان عليه في ظلّ الادارة الاميركية السابقة. ولكن هل سيتمكن ماكرون، إن حضر مجدداً في لبنان كراعٍ للحل، من تحقيق الهدف الذي يرمي اليه في تثبيت المبادرة الفرنسية، كقاعدة لحل يفضي الى تشكيل حكومة جديدة في لبنان؟ هذا امر مشكوك فيه، لأنّه قد لا يكون في مقدور ماكرون ان يفعل شيئاً في ظلّ التمترس الحاصل في لبنان، والخلاف الحاد بين اللبنانيين، وعدم الإنسجام بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري.
اللقاحات
من جهة ثانية، وفي وقت سجّل عداد الإصابات بفيروس كورونا يوم امس، 3907 اصابات و76 حالة وفاة، تمّ امس وضع لبنان سكة التلقيح ضدّ هذا الفيروس، الذي يُفترض ان يبدأ اعتباراً من الأسبوع الثالث من الشهر المقبل، بعد وصول اللقاحات منتصف الشهر المقبل.
وقال رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب خلال اجتماع اللجنة الوزارية لمتابعة خطة لقاح الوباء في السرايا، امس: «اليوم يبدأ العدّ العكسي لانطلاق الحملة الوطنية للتلقيح ضدّ وباء كورونا. هذا يعني أنّه اقترب الوقت لاستعادة حياتنا الطبيعية تدريجيًا، ليس فقط في لبنان، بل في العالم كله».
وشرح وزير الصحة حمد حسن تفاصيل الخطة، وقال: «بالنسبة الى اللقاح «فايزر»، كل شخص بحاجة الى جرعتين مع فاصل زمني ثلاثة أسابيع. وسيعطى بشكل مجاني حتى في مراكز التلقيح الخاصة، وهو غير الزامي. وقد تمّ حجز حوالى مليونين و100 جرعة من لقاح «فايزر»، وتمّ تحديد اول 5 دفعات لتصل اسبوعياً ابتداء من منتصف شهر شباط. أما بالنسبة للقاحات التي يعمل لبنان على الحصول عليها، فتمّ حجز لقاح غير محدّد لحوالى 20% من السكان في لبنان، اي حجز نحو مليونين و730 جرعة ممكن ان تكون للقاح «فايزر» او غيره . ويتمّ التفاوض حالياً مع «استرازينيكا» لحجز مليون ونصف جرعة».
الوضع المعيشي كارثي
بصرف النظر عن واقعية من يدّعي انّ التحركات في الشارع مُسيّسة، وتحرّكها جهات سياسية لغايات في نفس يعقوب، من غير المقبول إشاحة النظر وعدم الاعتراف بواقعٍ قائمٍ، يدفع الناس الى الشارع مجدداً، متجاوزين مخاطر كورونا الصحية. انّه الفقر والبؤس بكل معنى الكلمة. وقد لاحظ المراسلون المحليون والأجانب الذين تولوا تغطية الأحداث هذا الواقع المرير المرشّح الى مزيد من التدهور.
وفي تقرير الامم المتحدة الأخير، إشارة واضحة الى نمو انتشار الفقر في لبنان بسرعة، بما يُنذر بانفجار اجتماعي، خصوصاً في ظل التداعيات التي تسبّب بها الاقفال العام. وقد أصبح اللبناني الفقير بين خيارين، الموت من كورونا او الموت جوعاً.
هذا الوضع يعيد فتح ملف المساعدات المالية والعينية التي ينبغي ان تصل الى العائلات المحتاجة، والتي لا تزال تخضع لحسابات روتينية ومصلحية وزبائنية. وبانتظار بدء توزيع الاموال الناتجة من قرض البنك الدولي، والتي قد تستغرق 3 الى 4 أشهر لكي تبدأ، ينبغي تنفيذ خطة طوارئ تباشر من خلالها الدولة الغائبة عن الوعي، في توزيع المساعدات الفورية المالية والعينية الى المحتاجين، لأنّها من دون هذه الخطوة تساهم بل تدفع الى فوضى اجتماعية عامة، قد تصبح عصيّة عن الضبط والاستيعاب بعد حين، بما يهدّد الأمن الاجتماعي لكل اللبنانيين، ويُنذر بتحلّل الدولة تماماً.