من “الإلغاء” و”التحرير” مروراً بـ”الإصلاح والتغيير” وصولاً اليوم إلى “وحدة المعايير”، تتنوّع “طواحين الهواء” العونية على ساحات المعارك الخلّبية، تارةً في محاكاة الذود عن السيادة الوطنية وطوراً في الدفاع عن الحقوق المسيحية. لكن وبعد سلسلة من استحقاقات “حك المعادن”، انتهت المعارك “السيادية” في أحضان حلف استراتيجي مع النظام السوري، وخلصت المعارك الإصلاحية إلى الانضواء تحت راية جبهة محاصصات مشتركة مع المنظومة الفاسدة في مغانم الإدارات والوزارات… واختصاراً “أصبحت حقوق المسيحيين يختزنها جبران باسيل ولا أحد سواه على الساحة المسيحية”، بحسب تعبير أوساط معارضة للنهج العوني، فالأقربون من العونيين السابقين يعلمون قبل الأبعدين أنّ “من سلبهم حقوقهم النضالية في التيار الوطني وجيّرها على بياض لحساب صهر الجنرال، لا يتوانى عن تجيير حقوق المسيحيين واختزالها برصيد باسيل في ميزان الحسابات السياسية والرئاسية”.
واليوم على الحلبة الحكومية، تتعالى قرقعة الأسلحة وتتوالى البيانات والمواقف النارية، مداورةً بين بعبدا وميرنا الشالوحي، تأكيداً على أنّ الاشتباك القائم حول التشكيلة الوزارية الاختصاصية مرده إلى التصدي لمحاولة الاستيلاء على حقوق المسيحيين في السلطة الإجرائية، فإذا حصل رئيس الجمهورية و”التيار الوطني” على ثلثها المعطل تتحصّل هذه الحقوق، بغضّ النظر عما إذا كان لبكركي رأي مغاير وعما إذا كان الأغلب الأعم من القوى الأخرى على الساحة المسيحية خارج المعادلة التمثيلية، كل ذلك لا يهم، الأهم أن يقبض باسيل على مفاتيح الحل والربط في مجلس الوزراء والباقي كله تفاصيل. حتى دخول “حزب الله” على خط المشهد الحكومي فله حساباته ومقاديره على اعتبار أنه تجمعه مع رئيس الجمهورية “وحدة مسار ومصير” في المعركة الوزارية، وفق ما تشير مصادر مواكبة للملف الحكومي، معتبرةً أنّ النهج العوني في حقيقة الأمر ليس سوى “نسخة منقحة” عن نهج “الحزب” في “تكريس البدع والأعراف غير الدستورية في تشكيل الحكومات”.
وأوضحت المصادر أنّ “حزب الله كان هو حجر الأساس في تكريس مفهوم الثلث المعطّل في الحكومات على أنقاض 7 أيار، وهو اليوم لا يعارض هذا المبدأ بحد ذاته لكنه يعتبره مؤمناً بتشابك الحصص بين مجموع وزراء قوى الأكثرية في التركيبة الحكومية، ولا داعي بالتالي لاستحواذ طرف بعينه على الثلث المعطل، وهنا مربط الفرس في ما يُحكى عن مبادرة يقوم بها الحزب لتدوير زوايا عون ولجم اندفاعة باسيل”، أما في ما عدا ذلك، فتشدد المصادر على أنّ “مطالب عون هي انعكاس لمرآة مطالب الحزب، سواء لناحية فرض إلباس التشكيلة التخصصية المفترضة طابعاً تكنوسياسياً تحاصصياً يجسد تمثيل القوى الحزبية والنيابية على طاولة مجلس الوزراء، أو لناحية الدفع باتجاه توسيع الحكومة وجعلها “عشرينية” وهو كان بالأساس مطلب “حزب الله” قبل أن يكون مطلب عون”، مذكرةً في هذا المجال بأنّ “رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد كان أول من جاهر بهذا المطلب خلال مرحلة الاستشارات النيابية”.
وفي المحصّلة، تؤكد المصادر أنّ “حزب الله” لم يقدّم فعلياً أي مبادرة عملية لتسهيل تشكيل الحكومة بل يبدو كمن يتصرف على أساس ترك “التيار الوطني” يحصّل ما استطاع من مكاسب وزارية باعتبارها ستصب في نهاية المطاف في جعبة أكثرية 8 آذار، مشيرةً إلى وجود “مصلحة متقاطعة” بين بعبدا وحارة حريك في التشكيلة العشرينية، “فهي من جهة توسّع حصة الحليف المسيحي لحزب الله عبر ضمّ وزير كاثوليكي إلى حصة رئيس الجمهورية، ومن جهة ثانية تنتزع مفتاح الميثاقية الدرزية من يد وليد جنبلاط من خلال إضافة وزير لطلال أرسلان كشريك مضارب في حصة الدروز”. وختمت المصادر بالقول: “الأكيد أنّ هناك تكاملاً وتوزيعاً للأدوار بين عون وباسيل من جهة و”حزب الله” من جهة أخرى، والتنسيق في المواقف متواصل هاتفياً وغير هاتفي بين الجهتين”.
تزامناً، برز في مستجدات الأحداث الأمنية التي رافقت التحركات المطلبية في طرابلس اتجاه خلال الساعات الأخيرة لكسر حاجز الصمت العسكري، إزاء حملة الاتهامات السياسية التي سيقت بحق الجيش على خلفية هذه الأحداث، إذ لفت الانتباه ما نقله مصدر معنيّ عن وجود امتعاض كبير من محاولات زج المؤسسة العسكرية في عملية تصفية الحسابات بين القوى السياسية، مؤكداً أنّ الجيش اللبناني لا يتصرّف على أساس أنه “جيش النظام ولا يضع نفسه في خدمة الطبقة السياسية”، وذكّر بأنّ “القوى العسكرية والأمنية تمكنت منذ 17 تشرين الأول 2019 وإلى يومنا الحاضر من التعامل مع الوقائع الميدانية وفق تقديرات تراعي حفظ الأمن والسلم الأهلي وحرية التعبير في آن معاً”، مشدداً على أنّ “مسؤولية الجيش إزاء ما حصل في ليلة التخريب في طرابلس كانت ترتكز على وجوب التعامل بدقة متناهية، من دون الوقوع في شرك المواجهة مع مندسين مهمتهم سفك الدماء في شوارع المدينة، وتكفي الإشارة إلى أنه في الوقت الذي كانت وحدات الجيش منشغلة بأحداث طرابلس كانت وحدات أخرى ترصد خلية نائمة لتنظيم “داعش” الارهابي في منطقة عرسال وتمكنت من توقيف أفرادها، لتبيّن الاعترافات الأولية أنّ هذه الخلية كانت تخطط لعمليات أمنية خطيرة تستهدف بشكل مباشر الجيش اللبناني، وعناصرها استخدموا مصطلحاً جديداً وهو “فرم” الجيش ومخابراته أينما وجدوا”.