صاغَت التحركات السياسية، التي تسارعت في الساعات الماضية في الداخل والخارج، سؤالاً على المستوى العام: هل انّ في هذه الحركة بركة، من شأنها أن تُحدث خرقاً في جدار تأليف الحكومة الفاصل بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري؟
ظاهِر الأمور المحيطة بالملف الحكومي يوحي وكأنّ عجلة التأليف قد بدأت تتحرّك بسرعة وعلى عدة خطوط، إلّا أنّ التعمّق في هذا الملف يُظهر أنّ كل ما يجري من تحركات واتصالات، يطوف حول «سطحيات» الخلاف العقيم الذي ما زال مُستحكماً بين شريكي التأليف، ولا يقاربه في العمق. وبحسب المعطيات المتوافرة حول هذا الامر، فإنّ الحديث عن تقدّم، ولو كان طفيفاً على هذا الصعيد، ليس مبنيّاً على معطيات جدية، بقدر ما هو مبني على رغبات وتمنيات لا أكثر.
لحظة رحمانية!
وعلى ما تؤكد الوقائع المرتبطة بملف التأليف، فإن فرضيّة حصول تأليف وشيك للحكومة ليست واقعية حتى الآن، فالمسألة على ما يقول مرجع مسؤول لـ«الجمهورية» تحتاج الى «لحظة رحمانية» توقِف «حرب المُكاسرة» القائمة بين عون والحريري ومن خلفهما «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل»، وتأذن بإعادة بناء الجسور المهدومة بالكامل بينهما.
واذا كان المشهد الداخلي قد انضبطَ في الأيام الاخيرة على إيقاع المبادرة الفرنسية من جديد، بعد الحضور المباشر للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على الخط الحكومي، وأُضيف اليه في الساعات الماضية الدخول المصري على الخط من خلال استقبال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للرئيس المكلف سعد الحريري، الّا انّ المعطيات المتوافرة لدى معنيين بشكل مباشر بالملف الحكومي، تُقارِب كل هذا الحراك من زاوية انّ كل ما يجري يساهم في تحريك المياه الراكدة على الخط الحكومي، الّا أنّ هذا الحراك لم يصل بعد الى لحظة الأمل بانفراجٍ وشيك، يسهّل الابحار في هذه المياه نحو تأليف الحكومة في المدى المنظور. في ظل الشروط والمطالب المحسومة، التي لا يبدو انها غير قابلة للتراجع عنها، سواء لدى رئيس الجمهورية او الرئيس المكلف، فكلاهما لم يقدّما حتى الآن، لا للوسطاء الداخليين ولا للاصدقاء الخارجين، ايّ اشارة حول استعدادهما للتراجع عن مطالبه أو حتى تعديلها بشكل طفيف. وعليه، يبقى الحديث عن انفراج حكومي وشيك كفرضية معاكسة لواقع الخلاف المُستحكم بين الرئيسين والتيارين.
خلاصات
وتِبعاً لذلك، فإنّ مصادر سياسية واسعة الاطلاع تعرض لـ»الجمهورية» صورة النقاشات الجارية في الصالونات المعنية بمطبخ التأليف، والتي تعكس ثبات هذه الصورة عند ما يلي:
– أولاً، انّ الحضور المصري المتجدّد على الخط الداخلي، لا يعدو أكثر من عاملٍ داعم من بعيد لمسار تأليف الحكومة، خصوصاً انّه لا توجد له في الداخل اللبناني ما يمكن تسميتها بـ»المُتَّكآت» التي يستند اليها لممارسة ضغط على هذا الطرف أو ذاك، ما خَلا مواقف معنوية داعمة لتأليف حكومة بالتوافق بين اللبنانيين. ومن هنا، فإن زيارة الرئيس المكلف تشكل في جوهرها غاية لتعزيز الحضور والمعنويات.
– ثانياً، انّ الحضور الفرنسي، وكما تعكس خلفيات تحرّكه في الآونة الاخيرة، يسعى الى حكومة مهمة سريعة وفق مندرجات المبادرة الفرنسية، وبرئاسة سعد الحريري. وعلى هذا الاساس يواكب الفرنسيون حضورهم المتجدد تجاه لبنان بتحرّك موازٍ، خصوصاً في اتجاه دول الخليج، وعلى وجه الخصوص في اتجاه السعودية، سعياً الى حشد دعم لحكومة برئاسة الحريري.
الى السعودية
وبرز في هذا السياق ما نقلته وكالة الانباء الالمانية عن مصادر دبلوماسية غربية في العاصمة السعودية الرياض، من أنّ ماكرون يعتزم زيارة المملكة منتصف الشهر الحالي، ولقاء الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان.
وبحسب المصادر، فإنّ محادثات الطرفين ستتناول الجهود لإنجاح المبادرة الفرنسية بشأن لبنان وأهمية الدعم السعودي لها لإخراج لبنان من أزمته والدفع بتشكيل حكومته بعيداً عن الإملاءات الإقليمية والمصالح الحزبية من خلال التناحر على الحصص الحكومية»، لافتة في هذا السياق إلى نداء ماكرون الذي وجّهه إلى القيادة السعودية مؤخراً بـ«ألّا تتخلى عن لبنان وتتركه لمصيره».
رسالة الى بري
وفي سياق فرنسي متصل، جدّدت باريس تأكيدها الوقوف الى جانب لبنان، وجاء ذلك في رسالة تلقّاها رئيس مجلس النواب نبيه بري من رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرارد لارشية، أشار فيها الى انّ المرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان جرّاء الصعوبات الاقتصادية والصحية والاجتماعية، والتي تترافق مع التوترات الاقليمية في المنطقة، تتطلب توازناً بين تطلعات الاجيال الصاعدة والاصلاحات، منوّهاً بالدور البارز والمهم الذي يضطلع به الرئيس بري في هذا الاطار كرئيس للسلطة التشريعية. وأكد لارشية أنّ مجلس الشيوخ الفرنسي، بما يمثّل من تنوّع سياسي، سيبقى دائماً الى جانب لبنان.
ورقة التكليف
– ثالثاً، إنّ الرئيس المكلف ممسك بورقة التكليف، ومتمسك بتشكيل الحكومة وفق المعايير التي حددها، ووفق الآلية التي ترجمها بالمسودة الحكومية التي قدمها الى رئيس الجمهورية. وبالتالي، ما زال يعتبر ان هذه المسودة ما زالت تتمتع بالصلاحية الكاملة، وإنّ الكرة حولها، لقبولها او رفضها، هي في ملعب رئيس الجمهورية.
قلم التوقيع
– رابعاً، إنّ رئيس الجمهورية ممسك بقلم التوقيع، ويستند اليه في رفض ان يُنتزَع منه حقه في تسمية الوزراء المسيحيين وإبداء رأيه في كل الوزراء، وكذلك رفض السماح للحريري بأن يشكل حكومته بالشكل الذي يريده، على النحو الذي يجعله متحكّماً وحده بشؤون البلد، وممسكاً بزمام الامور وادارتها في الاتجاه الذي يريد.
وعلى ما يقول مطلعون على خلفيات الموقف الرئاسي، فإنّ رئيس الجمهورية لن يتخلى عن ورقة الشراكة الفاعلة في الحكومة، من خلاله مباشرة وعبر تيّاره السياسي، باعتبار انّ الشراكة الفاعلة فرصة تُتيحها الحكومة الجديدة لتحقيق إنجازات للعهد، حُرم منها في السنوات الأربع الماضية من الولاية الرئاسية.
نريد التمثيل الصحيح
وإذ يجزم هؤلاء المطلعون أنّ رئيس الجمهورية ومعه «التيار الوطني الحر»، جاهَر علناً باعتماد مجموعة معايير لتمثيل صحيح، وكذلك بالحق في تسمية الوزراء المسيحيين، الّا انه لم يطالب علناً بالحصول على الثلث المعطّل في الحكومة، الّا انّ النقاشات من هذا الجانب، سواء مع الوسطاء او الحلفاء السياسيين، عكست انّ ما يطالب به التيار هو «التمثيل الصحيح» في الحكومة، وهذا التمثيل الصحيح مُرادِفه حصول التيّار على حصة وزارية توازي او تستجيب لحجمه كأكبر تكتل نيابي. وإنّ تَقريش هذه الحصة يبدأ من 7 وزراء في الحكومة، ما يعني ثلثاً معطّلاً في حكومة من 18 وزيراً، وحكومة من 20 وزيراً.
ويلفت المطلعون الى القول انه «عند هذا الحد، الذي لا تراجع عنه، تقف حركة الوساطات مع عون و»التيار الوطني الحر»، حتى تدخل «أقرب الحلفاء» لهما في سبيل حملها على تبديل موقفهما، محكومة بالفشل المسبق. إذ إنّ عون والتيار تجرّعا من البداية كأس تكليف الحريري المرّة، لكنهما يرفضان أن يتجرّعا كأساً مرّة ثانية، عبر تَرك الحريري يشكّل حكومة كما يريدها ومتفلّتة من يَد عون وتياره السياسي، علماً أنّ في عمق العلاقة بين عون ومِن خَلفه التيار، مع أقرب الحلفاء والمقصود هنا «حزب الله»، يُظهِر أنها تعاني بعض الارتجاج جرّاء تمايز الحزب، أولاً لناحية تأييد الحزب لحكومة برئاسة الحريري، وثانياً لعدم مُماشاتِه لرئيس الجمهورية وتياره في ما يطالبان به في ملف التأليف، وخصوصاً حول ما يتّصِل بالثلث المعطّل.
وينتهى هؤلاء المطلعون الى خلاصة لموقف التيار مفادها، إمّا أن نحصل على تمثيل في الحكومة يوازي حجمنا السياسي والنيابي، وإمّا سنكون خارج الحكومة نهائياً، ويترك الامر بالتالي الى رئيس الجمهورية، الذي هو حرّ في أن يقبل بذلك ويسمّي الوزراء المسيحيين أو لا.
فكرة مخرج
الى ذلك، علمت «الجمهورية» انه وَسْط الانسداد الكامل في ملف التأليف، سعى بعض الوسطاء الى تَسويف فكرة وُصِفَت بالمخرج للتأليف تقوم على حَمل رئيس الجمهورية والرئيس المكلف عن التراجع عن تصلّبهما، وإفساح المجال امام بعضهما بعضاً لاستيلاد هذه الحكومة في وقت قريب. وبحسب المعلومات، فإنّ هذه الفكرة تقوم على 3 عناصر:
الأول، هو التحذير من انّ الوضع الاقتصادي والمالي بات على شفير انفجار رهيب، تَنتفي معه كل المطالب والحصص او الحضور الفاعل في الحكومة، ما يُحتّم التنازل سريعاً لتشكيل حكومة طوارىء لمواجهة هذه الازمة، وبمهمة وحيدة، هي إعادة هيكلة القطاع المالي، وهيكلة المصارف بهدف إعادة الوضع المالي الى ما كان عليه قبل 17 تشرين الاول من العام الماضي، او على الاقل اعادة وضع هذا الوضع المالي على السكة للعودة الى سابق عهده.
الثاني، هو التحذير من خطورة الوضع الامني والفلتان الذي يشهده، سواء في ارتفاع معدلات الجريمة والسرقات، أو بالمحاولات الجارية لإيقاظ الخلايا الارهابية النائمة واعادة تحريكها لإشاعة الفوضى في لبنان، والمَس باستقراره، إنفاذاً لأجندات خارجية.
الثالث، وينطوي على شيء من «المَكر»، وهو محاولة إقناع كلا الرئيسين بأن يترك ادارة السفينة الحكومية للآخر، والنأي بنفسه عمّا قد يصيبها لاحقاً، فهذه الحكومة ليست آتية بنزهة، بل هي حكومة خطوات وقرارات موجعة وغير شعبية، من رسوم وما شابَه، ولن تقدّم أي تقديمات اجتماعية، ولن تعالج الاجور، وما الى ذلك من إجراءاتٍ متصلة بالضرائب والرسوم وإلغاءٍ للامتيازات، فلماذا تريد أن تأخذها بصدرك وتتحمّل تبعات خطواتها وقراراتها؟ بل اتركها لغيرك كي يعلق فيها ويحصد نتائجها وحده، وليقلّع شَوكه بيديه إن استطاع.
الحريري في مصر
وكان الرئيس المكلف قد قام أمس بزيارة سريعة الى القاهرة، واستقبله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في قصر الاتحادية في العاصمة المصرية.
ووزّعت الرئاسة المصرية بياناً حول ما دار بين الرئيسين السيسي والحريري ، جاء فيه أنّ الرئيس المصري أكّد حرص مصر على الحفاظ على قدرة الدولة اللبنانية في المقام الأول، ولإخراج لبنان من الحالة التي يعانيها حالياً، من خلال قيام كافة القادة اللبنانيين بإعلاء المصلحة الوطنية، وتسوية الخلافات، وتسريع جهود تشكيل حكومة مستقلة قادرة على التعامل مع التحديات الراهنة وصَون مقدّرات الشعب اللبناني الشقيق ووحدة نسيجه الوطني.
وقال المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية السفير بسام راضي «إنّ الرئيس السيسي جدّد موقف مصر الثابت تجاه تعزيز أواصر التعاون الوثيقة مع لبنان، مُعرباً عن خالص التمنيات للسيّد سعد الحريري في تشكيل الحكومة الجديدة، على نحوٍ يلبّي تطلعات الشعب اللبناني الشقيق في تحقيق الأمن والاستقرار، ومشدداً على استعداد مصر لتقديم كافة أوجه الدعم والمساعدات لتجاوز الأزمات التي يواجهها لبنان، لا سيما التداعيات التي خلّفها كلّ من حادث انفجار مرفأ بيروت وجائحة فيروس كورونا».
وأشار الى أنّ الحريري أكد بدوره «اعتزاز لبنان بالعلاقات التاريخية الوطيدة التي تربط الدولتين الشقيقتين، والتي تقوم على أسس من التضامن والأخوّة»، مُعرباً عن «تقدير بلاده للجهد المصري في دعم لبنان في كافة المجالات، خاصة من خلال تقديم كافة أشكال العون والمساعدات للبنان في أعقاب تداعيات حادث مرفأ بيروت، وكذلك كركيزة أساسية في حفظ الاستقرار بها والمنطقة العربية ككل، مشيداً بالتجربة المصرية الراهنة المبنية على أولوية النجاح الاقتصادي والتنموي، ومعتبراً أنهاً نموذج يُحتذى به في دول المنطقة».
كما التقى الحريري وزير الخارجية المصري سامح شكري ورئيس جهاز المخابرات العامة عباس كامل، وكذلك الامين العام لجامعة الدول العربية أحمد ابو الغيط.
وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية السفير أحمد حافظ: تمّ التأكيد أيضاً على أهمية إعلاء المصلحة الوطنية العليا للبنان من أجل الخروج من المأزق الحالي في إطار التزام الدستور اللبناني، وبما يَستوجبه ذلك من الإسراع في جهود تشكيل حكومة مستقلة قادرة على التعامل مع متطلبات المستقبل الذي ينشده الشعب اللبناني».
شيا
وقد برزت في السياق المرتبط بالملف الحكومي، زيارة السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا الى بكركي ولقاؤها البطريرك الماروني ما بشار بطرس الراعي، وبحسب المعلومات الموزّعة عن اللقاء فإنه جرى تشديد على ضرورة تشكيل حكومة جديدة في أسرع وقت لتعمل على إنقاذ لبنان من أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية».
صورة قاتمة
من جهة ثانية، حذّرت مجموعة الأزمات الدولية من «أنّ أعمال الشغب الأخيرة، التي وقعت في مدينة طرابلس في شمال لبنان، هي مؤشّر جديد على بوادر انهيار الدولة».
ودعت شركاء لبنان الدوليين الى «مواصلة الضغط على نخبته الحاكمة لحل الأزمات، ومضاعفة المساعدات الإنسانية للسكان اليائسين بشكل متزايد».
ونبّهت الى أنه «إذا استمر الانحدار الاقتصادي بالهبوط، أو أدّت تدابير تقشّف جديدة، مثل خفض الدعم عن السلع، إلى زيادة الضغوط الاجتماعية، فقد يتزعزع الاستقرار في البلاد بشكل خطير». وقالت: «الشركاء الخارجيون، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية والدول العربية، مصممون على حَجب المساعدات غير الإنسانية، ما لم يتّخِذ القادة اللبنانيون خطوات لمكافحة الهدر والفساد، وفقاً للمجموعة. وإنهم، أي الشركاء، مُحِقّون في فِعل ذلك، ولن ينجو لبنان من مأزقه إلّا إذا غيّرت نُخبته السياسية سلوكها»، وحتى ذلك الحين، يجب على شركاء لبنان الخارجيين مضاعفة جهودهم لمنع انهيار الدولة، ويجب إعلان حالة طوارئ إنسانية.