في بلاد القهر هنا ما لك إلا أن تنتظر على قارعة الموت. موتٌ بانفجار أو بوباء أو بجوع أو باغتيال أو بقصف، لا فرق. فالموت الذي تحكم ملائكته هذه الرقعة من كوكبنا لا قيمة معه لكل أقانيم الحياة. قدرٌ أم لعنة، لا فرق. ففي الحالتين كُتب على هذا البلد أن يعيش المأساة تلو المأساة، والأزمة تلو الأزمة، والمصيبة بعد المصيبة، وأن يمضي اللبنانيون يومياتهم ساحةً للصراع والأزمات من كل جهات الأرض.
وفي هذا السياق التراجيدي فقط تأتي جريمة اغتيال الناشط السياسي والباحث لقمان سليم. اغتيالٌ أعاد المخاوف والقلق من عودة مسلسل القتل السياسي وإستهداف قادة الرأي. والشهيد الذي كان عرضة للتهديدات في الآونة الأخيرة شكّل إغتياله صدمة على كل المستويات، رغم اعتياد اللبنانيين على تروما الصدمات المتتالية.
ذهب لقمان سليم مبتسماً لأن قاتلَه لم يستطع التغلب عليه إلا بالتصفية الجسدية. ذهب لقمان لكن ورغم الخسارة تبقى خلفه إرادة لن تُقهَر. إرادة الحياة التي مهما ارتفعت أسهم القتل والاغتيال والظلام لن تقوى عليها. صحيحٌ أن درب جلجلة اللبنانيين بات طويلاً جداً لدرجة لم تعد معها من قدرة على الصمود. لكن لن تكون الغلبة إلا للخيار الطبيعي في التنوع والتعدد والحرية والحياة.
ومع انتشار خبر الاغتيال توالت ردود الفعل الشعبية والسياسية والرسمية، محلياً ودولياً. وكان أعرب الحزب التقدمي الإشتراكي عن خشيته مما ترمز اليه هذه الجريمة من قلق مضاعف على الكيان اللبناني وعلى ميزته في الحريات والتعبير عن الرأي.
وفي المواقف والتعليقات، وصفت الناشطة الدكتورة منى فياض في حديث لـ “الأنباء الإلكترونية” جريمة الإغتيال بأنها “رسالة متعددة الأوجه”. وقالت: “كان بإمكانهم إغتيال سليم في مكان سكنه أو في أي منطقة، فلماذا إغتالوه في منطقة الجنوب حيث الجيش واليونيفل؟ إذا كان القصد تخويفنا، فاستنتاجي أنهم الخائفون منّا، واغتياله رسالة الى الأطراف الوطنية والثوار الذين تحولوا الى جزئين: جزء يطالب بالسيادة الكاملة، وجزء مازال يعتبر حزب الله حزباً مقاوماً. الاغتيال رسالة الى الجميع بأن البلد يعيش تحت الجزمة الإيرانية. وفي الوقت الذي تتسلم فيه الإدارة الأميركية الجديدة يريدون تحويل لبنان إلى ساحة لتحديد مصالحهم والحصول على تنازلات من الأميركيين”.
من جهته عضو تكتل “الجمهورية القوية” النائب أنيس نصّار أمل “ألا يكون إغتيال سليم مقدمة لعودة مسلسل الإغتيالات”، وسأل عبر جريدة “الأنباء”: “هل كل من يعبّر عن رأيه يستحق الموت؟”.
عضو كتلة المستقبل النائب بكر الحجيري تخوّف من أن تكون جريمة الإغتيال هذه “مقدمة لجرائم لاحقة”. وفي حديث لجريدة “الأنباء الإلكترونية” ذكّر الحجيري أن “لبنان من العام 2005 تعرض لإغتيال خيرة رجاله، فهذه جريمة بحق البلد وبحق الديمقراطية وحرية الرأي التي نتغنى بها”.
بدوره النائب السابق فادي الهبر اعتبر في حديث لجريدة “الأنباء الإلكترونية” أن “لبنان في وضع إحتلال، وإذا ما عادت الإغتيالات سيكون الوضع كارثيا في ظل تحولات إقليمية ودولية عقب الإنتخابات الأميركية وسباق النفوذ بين إيران وإسرائيل، وبذلك لبنان أصبح ساحة مفتوحة لتبادل الرسائل”.
وسأل الهبر عن التحقيق في إنفجار المرفأ و”لماذا هذا الصمت عما يحصل من جرائم، ولماذا لم يكشف على أي منه في ظل هجرة اللبنانيين المتزايدة والإفلاس والفقر”، معتبرا “أننا أصبحنا في جوّ ديكتاتوريّ صامت. فكل شيء مدمر ولم يعد هناك ثقة لا بالقضاء ولا برئاسة الجمهورية. حتى الحكومة التي يجب أن ترضي المجتمع العربي والدولي لن يتمكنوا من تشكيلها”. وأشار الى أن “إغتيال سليم رسالة من شأنها أن تزيد القرف والإبتعاد عن دولة المؤسسات، لأن لبنان تحول فعلا الى جهنم وما تحت جهنم”.
رئيس حركة التغيير المحامي إيلي محفوض ربط في حديث مع جريدة “الأنباء الإلكترونية” تصفية سليم بالتصفيات الأخيرة التي طالت عقداء ومصورين. وقال إن “جو بجاني لاقط الصورة، ولقمان سليم لاقط الكلمة”، مستغرباً “عدم إستئناف القاضي صوان التحقيق بانفجار المرفأ بعد رد محكمة التمييز طلب إستبداله”، متوقعاً أموراً كثيرة “سوف تحصل قريباً ستبدّل الكثير من المشهد اللبناني”، وسأل: “هل يكون إغتيال سليم الخاتمة أم البداية؟ إنها البداية في الوسط الشيعي”، وشبّه تأثير إغتيال سليم على الإنتفاضة “بتأثير إغتيال سمير قصير على انتفاضة 14 آذار”. ورأى محفوض أن “هذه المؤشرات سوف تؤخذ بعين الإعتبار، فالقاتل لم يعد يهمّه إغتيال رجل سياسي من الصف الأول. فالخطر اليوم يتربص بقادة الرأي وبعض الأقلام الحرة، لأن هذه الأقلام أصبح لها تأثير كبير في الأوساط الشعبية”.
واعتبر محفوض أنه “إذا لم يُعرَف المنفذون خلال الساعات الـ 48 المقبلة يكون مصير التحقيق بجريمة قتل سليم كمصير التحقيق بقتل العقيد ابو رجيلي وبجاني وإنفجار المرفأ”.
وفي ظل التداعيات المأساوية لاغتيال لقمان سليم، ثمة من يعتبر أن الملف الحكومي بات أعقد بكثير، خصوصا مع ما يمكن أن تتركه جريمة الاغتيال من تأزم إضافي في المشهد السياسي، بعد صدور بيانات شديدة اللهجة محليا كما خارجيا. وقد علق النائب بكر الحجيري على هذه التطورات بالقول إنه “في الوقت الذي يتفرج فيه البعض هنا على إنهيار لبنان وعزله عن العالم العربي والدولي، يؤكد الرئيس سعد الحريري أنه رجل دولة بكل معنى الكلمة، فيقوم بالجولات لتأمين الدعم اللازم للبنان لإنتشاله من محنته ومنع الإنهيار، وفي حال تشكلت الحكومة يكون الدعم جاهزا”.
وهاجم الحجيري العهد، معتبرا أن “هؤلاء أحرقوا البلد من العام 1989 حتى اليوم. فمن يدعيّ بالعهد القوي عليه أن يفعل شيئا على الأرض يثبت أنه قوياً”.
وإلى جانب كل ذلك، بقي الهم الصحي عاملا ضاغطا، حيث ترتفع يوميا نسب الوفيات بوباء الكورونا، مع توجه اللجنة الوزارية المكلفة بهذا الملف الى اتخاذ قرار اليوم حول مصير الاقفال والخيارات المتاحة، رغم ان الواقع لا يوحي بإمكانية الذهاب إلى رفع الإقفال.