هل تعود الاغتيالات إلى المشهد الداخلي؟ هل يتجه لبنان إلى نموذج “العرقنة” في تصفية النشطاء وقادة الرأي والتعبير؟ من التالي على قائمة التصفيات؟ وغيرها من علامات الاستفهام والترقب طرحتها عملية اغتيال الناشط السياسي لقمان سليم فجر الخميس. وإذا كانت أصابع الاتهام السياسي اتجهت تلقائياً مع شيوع الخبر نحو “حزب الله” بالوقوف خلف تصفية سليم، باعتباره مناهضاً شرساً لسطوة “الحزب” على الدولة، وربطاً بكون العملية وقعت ضمن نطاق نفوذه الحيوي في الجنوب، لكن على الأرجح ستبقى المعادلة هي نفسها إزاء كل عمليات الاغتيال السياسي التي حصلت وستحصل في لبنان، بحيث تبقى الأدلة والقرائن الدامغة “في ذمة” الأجهزة الأمنية والقضائية الواسعة، فيضيع الحق ولو وراءه مليون مطالب… ليضاف في محصلة المشهد الدموي الجديد، إسم لقمان سليم، إلى قائمة الشهداء الذين ستبقى قضيتهم في ذمة “حزب الله” من دون أي إشعار قضائي آخر يثبت العكس.
هذا في الاتهام السياسي للجريمة، أما في مفعولها السيادي وانعكاساتها على أرضية المشهد الوطني، فإن الأكيد أنّ كل عمليات الاغتيال التي طالت قياديين وصحافيين ومفكرين وأصحاب الرأي الحر في لبنان لم تؤدّ غرض قمع الناس وكمّ الأفواه وترهيب السياديين، حتى بدا جلياً للقاتل أمس وهو يشاهد ردود الفعل على جريمته أنّ رصاصات غدره لم تستطع أن تخترق كل رؤوس الأحرار في البلد، بل زاد بجبنه شجاعتهم، وبضعفه عزيمتهم، وبتواريه إصرارهم على استكمال مسيرة الحق والحرية والمواجهة التي لطالما تقدم صفوفها سليم، ولا يزال يسير في ركبها قافلة من الشجعان، كل حرّ فيها “لقمان” آخر.
وعلى خط ثورة 17 تشرين التي كان سليم ناشطاً فاعلاً في حراكها الفكري والنضالي، فقد تداعت مجموعاتها الوازنة أمس إلى عقد اجتماع طارئ حذرت فيه من عودة “ميليشيا الارتهان إلى كمّ الأفواه بالاغتيال”، مناشدةً المجتمع الدولي “حماية اللبنانيين من الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والصحية والاجتماعية والأمنية”. وتوالت ردود الفعل الديبلوماسية والدولية في معرض التنديد بهذا الاغتيال “البربري”، كما وصفته واشنطن على لسان السفيرة الأميركية دوروثي شيا، بينما أعربت باريس عن إدانتها “بأشد الحزم لهذا العمل الشنيع”، مطالبة في بيان للخارجية الفرنسية بكشف الحقيقة، ومشددةً في هذا المجال على أنّ “فرنسا تنتظر من السلطات اللبنانية والمسؤولين اللبنانيين أن يسمحوا للقضاء بأن يعمل بفعالية وبشفافية كاملة من دون تدخل، لأنّ التعددية وحرية التعبير هي من الأنماط الأساسية التي يتمسك بها اللبنانيون وفرنسا تقف إلى جانبهم لصيانتها”.
وكذلك دعت جامعة الدول العربية إلى الإسراع في الكشف عن ملابسات الجريمة ومعاقبة مرتكبيها، محذّرةً من “انزلاق لبنان إلى منعطف خطير وحالة من الانفلات والعودة به الى مسلسل الاغتيالات المشين”. لكن وبموازاة إعلان رئاستي الجمهورية والحكومة عن الإيعاز للقضاء والأجهزة المعنية بإجراء التحقيقات اللازمة في الجريمة، جاءت معظم التعليقات والمواقف السياسية والديبلوماسية لتعرب عن تخوفها من أن يلحق التحقيق في اغتيال لقمان سليم بنمط التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، “الذي بقي بعد ستة أشهر غير حاسم ومن دون محاسبة ومن دون أن يعرف الناس الحقيقة”، كما عبّر المنسق الخاص السابق للأمم المتحدة في بيروت يان كوبيتش.
وفي السياق نفسه، استرعى الانتباه إصدار وزيري الخارجية الفرنسي والأميركي، جان إيف لودريان وأنتوني بلينكن، بياناً مشتركاً أمس عبّرا فيه “بعد مضي ستة أشهر على انفجار 4 آب الذي أودى بمئات الضحايا وتسبب بأضرار كبيرة”، عن دعم فرنسا والولايات المتحدة الكامل “الذي لا لبس فيه للشعب اللبناني”، وقالا: “كما فعلنا منذ الانفجار، بما في ذلك مع الأمم المتحدة وشركائنا والمجتمع المدني اللبناني في مؤتمري الدعم في 9 آب و 2 كانون الأول، ستواصل فرنسا والولايات المتحدة تقديم المساعدة العاجلة للشعب اللبناني، بما في ذلك الصحة والتعليم والإسكان والدعم الغذائي”.
ولفت لودريان وبلينكن إلى أنّ فرنسا والولايات المتحدة تتوقعان “نتائج سريعة في التحقيق في أسباب الانفجار”، مؤكدَين أنّ “نظام العدالة اللبناني يجب أن يعمل بشفافية بعيداً من أي تدخل سياسي”، مع تأكيدهما على “الحاجة الملحة والحيوية لأصحاب المصلحة اللبنانيين، للعمل بشكل نهائي على الالتزامات التي تعهدوا بها لتشكيل حكومة ذات مصداقية وفعالة، وتمهيد الطريق لتنفيذ الإصلاحات اللازمة”.
وكانت “هيومن رايتس ووتش” قد أضاءت في تقريرها لمناسبة مرور ستة أشهر على “الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت” على “تقاعس السلطات اللبنانية عن إحقاق العدالة”، لافتةً إلى أنّ “محاولات الزعماء السياسيين وقف التحقيق تعزز الحاجة إلى تحقيق دولي مستقل”.
وفي مقابل “التدخل السياسي وتعطيل التحقيق” وأمام “عناصر الجريمة العابرة للحدود على ما يبدو، فضلاً عن افتقار فريق التحقيق القضائي إلى القدرة الفنية”، رأت المنظمة الدولية أنّ هناك “ضرورة لإجراء تحقيق دولي، مثل لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة لكشف الحقيقة”، مشددةً في الوقت عينه على وجوب “أن يمرر لبنان على وجه السرعة مشاريع قوانين لضمان استقلالية القضاء وتوافق الإجراءات الجنائية مع المعايير الدولية”.