كتبت “الأخبار” تقول: لم يكن توافق رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بعد الاجتماع الخامس عشر البارحة على أن لا تقدم في تأليف الحكومة، سوى تأكيد أن أيّاً منهما ليس في وارد التخلّي عن شروطه، كما أن التعويل على زيارة باريس كان في غير محلّه.
مقدار ما بدا مفاجئاً الاجتماع الخامس عشر بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، وأوحى بجرعة أمل طارئة في تأليف الحكومة، أتى ردّاهما السلبيان على أثره أكثر تعبيراً عن الأوهام المستعجلة. وصل الحريري الى قصر بعبدا بلا تحضير مسبق، فأسقط للتوّ تداعيات الفيديو الذي وصفه فيه عون بأنه “كاذب”. كان قد شاع منذ بثّ الفيديو في 11 كانون الثاني الفائت أن الحريري لن يذهب الى قصر بعبدا، ما لم يعتذر رئيس الجمهورية عما عُدّ “إهانة” لحقت به. بلا اعتذار مسبق حضر البارحة، وطوى الصفحة العابرة.
أما فحوى الاجتماع الخامس عشر، الأول منذ 23 كانون الأول المنصرم، فهزيل للغاية. أتى الرئيس المكلف حاملاً معه المسودة نفسها، بالأسماء والحقائب بما فيها الحصة المسيحية، التي كان قد سلّمها الى عون في اجتماعهما الرابع عشر وأصرّ عليها فرفضها الرئيس، ودخلا مذذاك في قطيعة. أكد الحريري تمسكه بمسودته هذه على أنه الرئيس المكلف الذي يؤلف الحكومة، مع اشتراطه نفسه أن تكون 18 وزيراً. رد فعل رئيس الجمهورية بعدما قرأها، أن أعادها إليه.
انطباع عون على أثر اللقاء كان سلبياً بعبارة مقتضبة: الحال مش ماشي.
من ثم كان بيان رئاسة الجمهورية بمثابة رد على ما صرّح به الحريري لدى مغادرته، ومغزاه في عبارته الأخيرة أن على فريق أن يتحمّل مسؤولية مواقفه. بإلقائه التبعة على رئيس الجمهورية، يبرّر سلفاً النبرة العالية المتوقعة في الكلمة التي سيلقيها في ذكرى اغتيال والده الأحد 14 شباط.
بذلك عزز اجتماع لزوم ما لا يلزم أمس الاشتباك الدائر بين الرئيسين. كلاهما متصلّب في شروطه دونما إبداء استعداده للتنازل عن أي منها، في الوقت نفسه يسلّمان ضمناً بأنهما شريكان فعليان في تأليف الحكومة، فلا تصدر بلا موافقة الآخر، ولا يسع أحدهما فرضها على ندّه. المهم المعبَّر عنه في هذا الاجتماع، إقرارهما الضمني أيضاً بأن ما يحدث بينهما مشكلتهما في بُعديها الشخصي والسياسي فحسب.
ترجمة لذلك فُسّرت حصيلة اجتماع الحريري بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مساء الأربعاء (10 شباط) بأنها غير مثمرة، وأخفقت في إحداث أي تطور على الخلاف الرئاسي. ساهم في تبرير هذا التفسير أن باريس ــــ المعتادة على إبراز مراسم الاحتفاء به لدى دخوله وخروجه ــــ لم تتبنَّ استقبال الرئيس المكلف ولا التحدث عن عشاء الأربعاء، متجاهلة إياه تماماً. فإذا حدث ــــ خلافاً لكل التطبيل الذي أُعطي لها ورافق قبلاً الجولة الأخيرة للحريري منذ الأعياد ــــ مماثل لزياراته أبو ظبي وتركيا ومصر، من دون أن يعثر بعد على منفذ إلى الرياض الموصدة الأبواب في وجهه حتى إشعار آخر، بما في ذلك ــــ هو الحامل جنسيتها ــــ السماح له بدخول أراضيها، وإن من شقّ الباب.
منذ مطلع هذا الأسبوع، تقاطعت المعلومات التي وصلت الى المسؤولين الرسميين حيال موقف باريس من مأزق تأليف الحكومة، عشية اجتماع الحريري بماكرون وغداته، وتمحورت حول بضعة معطيات لا تشير الى تحوّل جدي ملموس أكثر مما هو معلوم عنها، وخصوصاً في ظل الغموض الذي لا يزال يحوط بزيارة ثالثة محتملة لماكرون لبيروت أو إرسال موفد له، الأمر الذي عنى، حتى إشعار آخر، ترك تأليف الحكومة بين يدي صانعَيها الاثنين المستعصي تفاهمهما:
1 – يسيء باريس أن الأفرقاء اللبنانيين جميعاً تنصّلوا من المبادرة الفرنسية، وأخلّوا بالتعهدات التي قطعوها للرئيس الفرنسي في زيارته الثانية لبيروت، وكانوا قد أكدوا له التزامهم تنفيذ بنود مبادرته قبل أن يكتشف لاحقاً أنهم خدعوه. مذذاك لم يطرأ لدى هؤلاء الأفرقاء أي استعداد معاكس، وثابروا على إنكار المبادرة، بدءاً بأبرز بنودها وهو تأليف حكومة اختصاصيين منذ إطاحة مصطفى أديب الذي صار الى تكليفه عشيّة وصول ماكرون الى بيروت في زيارته الثانية في 31 آب، ثم أُبعد بعد أقل من شهر.
2 – ما يثير استغراب باريس، في ضوء تواصلها مع الأفرقاء اللبنانيين، أنهم يغرقون أنفسهم في أوهام أن أحداً ما، أو قوة دولية، ستنقذهم في اللحظة الأخيرة قبل الانهيار الشامل. بين هؤلاء ــــ يقول الفرنسيون ــــ مَن يعتقد أن المشكلة تنتهي من تلقائها، ولذا يتمسكون بشروطهم ولا يبدون أي استعداد لأدنى تنازل.
3 -لا يفاجئ الفرنسيين ما يعرفونه عن اللبنانيين، على مرّ عقود العلاقات التاريخية بين البلدين، كما في أزمات محنهم وأزماتهم، أنهم أخبر من يُعوِّل على عاملَي الوقت والانتظار، ويتعمّدون ربط مشكلاتهم الداخلية بالملفات الإقليمية والدولية الشائكة. يرى الفرنسيون أن الأفرقاء المعنيين بالأزمة الحكومية الحالية يلتقون على هذين العاملين، لكنّ كلاً منهم يدرجه في جدول أعمال مختلف: ينتظر حزب الله والدائرون في فلكه نتائج المفاوضات الأميركية ــــ الإيرانية واحتمال العودة الى الاتفاق النووي الذي من شأنه تحسين شروطه في الداخل، عوض تقديم تنازلات مكلفة حيال موقعه في المعادلتين المحلية والإقليمية، ويعزّز موقعه التفاوضي بإزائهما. في المقابل، يربط الأفرقاء الآخرون، كالحريري ووليد جنبلاط والنائب جبران باسيل وسمير جعجع، هذه المفاوضات بانعكاسها على الانتخابات النيابية والرئاسية السنة المقبلة، على أن تصل هذه القوى الى هذين الموعدين قادرة على فرض شروطها متسلّحة بموقف تفاوض قوي بدوره. لذا يسهل فهم الشروط التي يتبادلها هؤلاء جميعاً حيال تأليف حكومة يفترض أن تكون قائمة قبل حلول الاستحقاقات المهمة تلك: تداعيات الاتفاق النووي المحتمل والانتخابات الدستورية اللبنانية المتوالية.
4 -منذ زيارته بيروت، لم تتغيّر الرسائل المباشرة التي وجّهها الرئيس الفرنسي مباشرة، أو موفده أو سفيره في بيروت، الى الأفرقاء اللبنانيين جميعاً بلا استثناء، وهو أن لا حل للمشكلة اللبنانية إلا بمباشرة الإصلاح الاقتصادي والنقدي فوراً وعلى نحو عاجل. أوفت فرنسا بكل ما تعهدت به الى الآن، من غير أن تلقى يداً مُدّت إليها تؤكد الشروع في تنفيذ مبادرتها، وأولها تأليف حكومة جديدة.
5 -لا مبادرة فرنسية جديدة، ولا تعديل في بنود المبادرة الحالية، بل إصرار عليها على نحو وضعها أمام المسؤولين والقيادات اللبنانية حينما جمعهم الرئيس الفرنسي في قصر الصنوبر في الأول من أيلول. الأهم في ما تصرّ عليه باريس، أن على الأفرقاء اللبنانيين أن لا يقلعوا عن التفكير في أن تنصّلهم من المبادرة من شأنه أن يحمل ماكرون على تقديم عروض بديلة. لا حلّ للأزمة إلا وفق ما اقترحه وهو تأليف حكومة تعكف على إقرار الإصلاحات التي أوردها مؤتمر سيدر عام 2018 وما أوصى به صندوق النقد الدولي.