أي نظام إقتصادي في العالم لا يحترم الإنسان ولا يُلبّي حاجاته الأساسية هو نظام ساقط بكل أبعاده. إحترام الإنسان يُترجمّ بعلم الإقتصاد بتلبية حاجاته عملا بهرم “أبرهام ماسلو” الذي أرسى الدعائم الأساسية لتلبية هذه الحاجيات على شكل هرم حيث تحتل الحاجات الفيسيولوجية (الأكل، الشرب، المسكن، الطبابة…) المرتبة الأولى. اولويات هذه الحاجيات أكدّت عليها الأمم المُتحدة في شرعة حقوق الإنسان واعتبرتها أصلا يبنى عليها عمل مؤسسات الأمم المتحدة في خدمة شعوب العالم.
إن الإعتبارات الأخلاقية والأنثروبولوجية تمثل نواة العمل الإقتصادي سواء كان الطرف الآخر الدولة أم مؤسساتها أم أي لاعب آخر في الماكينة الإقتصادية. من هذا المُنطلق، أخذ الإنسان، من حيث هو إنسان، حيزًا كبيرًا في العلوم الإقتصادية، فقد إعتبر أرسطو أن الحكام يجب أن يتمّ إختيارهم لكفاءتهم على الصعيد السياسي والإقتصادي لكي يعملوا من أجل رفاهية المُجتمع أجمع وليس فقط من أجل رفاهية شخصية محددة أو رفاهية مجموعة معينة في هذا المجتمع. وبالتالي يُعرّف أرسطو هدف السياسة بأنه يصبو إلى تحقيق سعادة أعضاء المجتمع، وإذا ما تمّ تنفيذ هذه السياسة من قبل أشخاص يتمتّعون بالفضيلة، فإن المجُتمع يُصبح مثالياً! ويُعطي أرسطو أدوارًا إضافية للسياسة منها: خلق، وتطوير، والحفاظ على النظام السياسي والإقتصادي.
ومع ذلك، تبقى النقطة الأساسية في فكر أرسطو الربط بين الأخلاق والسياسية، إذ إنه يعتبر الأخلاق (كما أفلاطون) هي عنصر أساسي في السياسة التي تهدف إلى الخير العام والمصلحة العامّة. ويذهب أرسطو أبعد من ذلك عندما يضع القضاء كضمانة أساسية من أجل إستدامة المجتمع.
التيارات الفكرية الإقتصادية التي برزت عبر عصور من العصف الفكري شدّدت بمعظمها على الفرد وعلى مصلحة الفرد، إلا أن الإختلاف الجوهري بين هذه التيارات كان على طريقة الوصول إلى هذا الهدف. الفكر الليبيرالي المُنبثق من “آدم سميث” شدّد على الحرية الفردية التي تسمح للفرد بالقيام بمبادرات فردية تصّب في مصلحته ولكنها أيضًا تنظر في مصلحة المُجتمع (أي إن مصلحة الفرد تقود إلى مصلحة المُجتمع). وجاء “كارل ماركس” الثائر فغيّر وجهة التاريخ من خلال رفضه إستغلال البروليتاريا من قبل البورجوازية وإنتقاده ممارسة الرأسمالية، فطالب بتدخّل مؤثر من قبل الدولة لوقف هذا الإستغلال لتأمين العدالة الإجتماعية… وجلّ ما يُمكن إستخلاصه من نظريته هو أن أي نظام إقتصادي يجب أن يأخذ بعين الإعتبار البعد الأخلاقي والإنثروبولوجي. ومن ثم أتى “جون كينز” ليتموضع بين الليبيرالية والماركسية طالبًا تدخلّ الدولة لتنظيم عمل الماكينة الإقتصادية مع المُحافظة على الحريّة الفردية العزيزة على قلب كل التيارات الفكرية الإقتصادية.
إن الأنظمة السياسية عامة لا تُنفّذ بالضرورة توصيات هذه التيارات الفكرية بل إن توجّه البعض منها قد يكون عكس أي منطق إقتصادي منصوص عليه في الكتب والمراجع على مثال الحكم “الأوليغارشي” الذي صنّفه أفلاطون في كتابه “الجمّهورية” في خانة الأنظمة التي لا تلتزم بالقانون! وقد رسم أرسطو (تلميذ أفلاطون) مواصفات حكم الأوليغارشية حيث قال إنها تتوجب وجود شروط مُعيّنة من بينها الوضع المالي لأعضائها حيث إن قدرة الأوليغارشية على الحكم تتسع مع الثروة. ويستنتج أرسطو بأن الأوليغارشية تنتهي دائمًا بالإستئثار بالسلطة! وبالتالي ووفقًا لأرسطو، لا يُطلب من النظام السياسي زيادة الثروة إلى الحد الأقصى كما يُطالب الأوليغارشيين، ولا تحقيق المساوة كما يُطالب الفقراء الذين ينادون بـالديمقراطية، بل هدف هذا المُجتمع المثالي هو جعل الحياة جيدة من خلال أعمال عظيمة تعود بالفائدة على الجميع. وهذا ما يؤكده “ميلر” الذي يعتبر أن الدستور الممتاز هو الذي يضمن سعادة مُستدامة للمواطنين، ويُضيف إن الدستور الأقل سوءًا هو الدستور الذي يسمح لطبقة وسطى يكون عددها كبيرًا، بالتحكم بالسلطة. ويُبرّر ميلر قوله هذا بأن الطبقة الوسطى (ليست غنية وليست فقيرة) هي الأكثر موضوعية من الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة، وليس لديها ميول نحو العنف وهو ما يجعل السلطة أكثر ثباتًا.
ومما سبق سرده عن هذه المدارس وانتقالاً إلى الوضع الإقتصادي والسياسي القائم في لبنان، يُمكن القول أن الحكم في لبنان هو حكم أقلّيات (أوليغارشي). وهذه الأقليات ليست محصورة في طائفة مُعينة أو منطقة مُعيّنة، بل هي تجمّع أثرياء توسّعت قدراتهم على الحكم مع توسّع ثرواتهم. إذ ما ظهر إلى زماننا هذا أن السياسات الإقتصادية التي رسمتها الحكومات لم تأتِ بما هو خير لحياة المواطن، ويمكن فهم ذلك من خلال النظر إلى مؤشر “جيني” لرؤية التركيز في توزيع الثروات في المجتمع اللبناني، وهو ما يفسر في هذه المدارس باللاعدالة. بالطبع هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال الذهاب إلى ما يُطالب به بعض مُدّعو اليسارية في لبنان والذي لا يقل فساداً أي الأخذ من الغني وإعطاء الفقير بلا ضابط ولا حد، بل ما يقرره ويُطالب به الفكر الإقتصادي ألا وهو توزيع الثروات كلٌ بحسب مُساهمته في الإقتصاد، وهذا الأمر يتطلّب إعطاء فرص متساوية لكل فرد في المُجتمع.
وضع لبنان الإقتصادي والإجتماعي في العام 2021، يُوصل إلى إستنتاج أمر من إثنين:
أولا- الحكومات المُتعاقبة لم تكن على المستوى التقني الكافي لرسم سياسات إقتصادية تعود بالخير على المواطن؛
ثانيًا – الحكومات المُتعاقبة لم تعمل، عن سابق تصور وتصميم، على رسم سياسات إقتصادية تعود بالخير على المواطن.
وبالتالي، ما نحصده اليوم هو نتاج ما زرعناه في الماضي من سياسات إقتصادية لم يكن فيها المواطن المحور، بل إن المحور الأساس فيها كان مصلحة قلّة قليلة إستفادت من النظام السياسي القائم.
إذًا ما يتعرّض له المواطن اليوم هو نوع من أنواع الإرهاب على الصعيد الإقتصادي وعلى الصعيد الإجتماعي. فالإرهاب التقليدي المُعرّف بإستخدام العنف لتحقيق غايات سياسية، يُستخدم اليوم في الإقتصاد من خلال العنف المُمارس على المواطن من أجل أهداف مالية. كذلك الأمر على الصعيد الإجتماعي حيث إن المواطن يتعرّض للعنف الاقتصادي الذي يقود إلى الذلّ وبأهداف بعيدة عن العدالة الاجتماعية والحقوق الطبيعية للكائن البشري.
خلال عام واحد أي من 2019 إلى 2020، إرتفعت نسبة الفقر في لبنان من 30% إلى أكثر من 55% (أي ما يوازي الضعف). وهذه الديناميكية تُنذر بمخاطر كبيرة في المرحلة المقبلة مما يفرض على المسؤولين القيام بعددٍ من الخطوات :
أولا – التركيز على تأمين الحاجات الأساسية التي تدخل ضمن نطاق الحاجات الفيزيولوجية التي نصّ عليها هرم ماسلو؛
ثانيًا- إعادة هيكلة الإقتصاد والقطاع المصرفي بطريقة لا تمسّ بالأسس الليبيرالية التي نصّ عليه الدستور اللبناني؛
ثالثًا – إعادة هيكلة القطاع العام بطريقة علمية محترفة لا تؤذي موظّفي القطاع العام ولكن في الوقت نفسه تُخفّض حجم هذا القطاع إلى حدوده الدنيا؛
رابعًا – ضمان إستقلالية القضاء كما نصّ عليها أرسطو، بحكم أن القضاء هو ضمانة إستدامة المُجتمع.
ومن البديهي إلزامية وجود نظرة مستقبلية تؤدي لوضع خطّة تفصيلية لكل نقطة من هذه النقاط ويتمّ العمل عليها.
إلا أن البعض قد يقول (وهذا حقّ) إن الحلول تمرّ عبر صندوق النقد الدولي الذي يحمل خطّة كاملة مُتكاملة للخروج من الأزمة، وبالتالي وبمُجرّد تشكيل الحكومة فإنها ستعمد إلى تنفيذ ما يُطلب منها. وهذا الأمر يعني أن لبنان لم يعد محكومًا بخيارته لا السياسية ولا الإقتصادية! وبإعتقادنا، المُجتمع الدولي يفرض حلوله لأن الحكومات المُتعاقبة لم تملك أي خطّة فعلية تُحسّن من الظروف المعيشية للمواطن اللبناني ولم تسمح بتطوير إقتصاده أو نظامه السياسي. وبالتالي، فإن وجود خطّة واضحة المعالم تضعها الحكومة اللبنانية بناءً على طموحات الشعب اللبناني، يسمح لها أي للحكومة بمواجهة صندوق النقد الدولي بصرامة وثبات أكثر وتكسب من خلالها إحترام المُجتمع الدولي وتستعيد مصداقيتها التي فقدتها خلال سنين من غياب الرؤية. ولعل ذلك هو أحدى الوسائل الناجحة في إعادة الثقة على الصعيدين المحلي والخارجي والذي ليس مستحيلا إذا توافرت الإرادة والعزم والإخلاص اللازمين لخطة مماثلة
في الختام، لا يسعنا القول إلا أن الأجواء السياسية القائمة حاليًا تفرض إمتداد الأزمة على عدّة أشهر وأغلب الظن أنها لن تنتهي قبل نهاية هذا العام، إلا إذا طرأ عامل جديد لا يُمكن التنبؤ به فيُعدّل مسار الأمور.
نأمل ذلك!