سيُسجّل للمحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ، القاضي فادي صوان، جرأته على ملاحقة مسؤولين من السلطة السياسية، نواباً ووزراء ورئيس حكومة، لكن سيُسجّل عليه في المقابل أنه أفرغ هذه الخطوة من مضمونها، بأداء “غير مفهوم”، يراوح بين تنفيذ أجندة سياسية ما، والعمل وفقاً لتعليمات إعلامية.
الجديد في الأمر استدعاء صوان وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس، إلى التحقيق، بصفة مدّعى عليه. الأخير أعلن أنه لن يمثل أمام القاضي اليوم، لأن طريقة استدعائه مخالفة للقانون. فقد أبلغ بموعد الجلسة قبل أقل من 24 ساعة من موعدها، هاتفياً، ومن دون ذكر المواد التي ادّعي عليه بها، ومن دون إبلاغ نقابة المحامين التي ينتسب إليها فنيانوس. وأكّد وزير الأشغال السابق أن إعلانه عدم المثول أمام صوان اليوم لا يعني امتناعه عن الاستجابة إلى طلبات القاضي مستقبلاً، بل إن “مشكلتي، حالياً، هي أن الاستدعاء تم بصورة غير قانونية”. وفاقم من سوء الأمر أمس تسريب محطة “أم تي في” خبراً يفيد بأن صوان أصدر مذكرة توقيف بحق فنيانوس، بعد الادعاء عليه بجرم الإخلال بواجباته الوظيفية، قبل أن تنفي مصادر قضائية هذا الخبر.
مسألة الادعاء على فنيانوس، ومعه النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر، ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، تبقى خطوة منقوصة قانوناً، طالماً أنها اقتصرت عليهم. فهي لم تشمل وزراء آخرين في حكومة دياب، كما لم تشمل رؤساء حكومات سبقوا رئيس الوزراء الحالي، حكموا في السراي عندما أفرِغت شحنة نيترات الأمونيوم التي انفجرت في المرفأ يوم 4 آب 2020، أو كانوا في الحكم فيما قنبلة الميناء موجودة فيه في انتظار يوم تفجيرها. وبطبيعة الحال، لا يفسّر صوان، ولا السلطة القضائية التي ترعاه (تحديداً، رئيس مجلس القضاء الاعلى، القاضي سهيل عبود)، إجراءاته وقراراته. فهو لم يشرح للرأي العام بعد السبب الذي يدفعه إلى توقيف ضباط من الأمن العام، لأكثر من خمسة أشهر، رغم أن صلاحياتهم القانونية لا تتيح لهم القيام بأي إجراء في مرفأ بيروت، باستثناء متابعة حركة الأفراد الذين يغادرون لبنان بحراً أو يدخلون الأراضي اللبنانية عبر ميناء العاصمة. وللمقارفة أن هؤلاء الموقوفين سبق أن كتبوا تقارير وأرسلوها إلى قيادتهم، بشأن شحنة نيترات الأمونيوم، ما يعني أنهم قاموا بواجبهم كاملاً، ولم يخلّوا بواجباتهم.
يُضاف إلى ما تقدّم، استمرار صوّان في ممارسة الهرطقة القانونية، من خلال طلبه من النيابة العامة الادعاء على المدير السابق لإقليم بيروت بالإنابة في الجمارك، موسى هزيمة، واستدعائه للمثول أمامه اليوم. ومكمن الهرطقة أن صوان قرر الادعاء على هزيمة من دون أن يستمع إليه، كما لم تستمع إليه النيابة العامة ولا الأجهزة الأمنية التي تولت التحقيق في جريمة انفجار المرفأ. وهذه الأجهزة الأمنية والقضائية أهملت التحقيق مع هزيمة عمداً، لسبب بسيط، وهو أنه كان مديراً لإقليم بيروت بالإنابة، حتى 23 حزيران 2014. ومنذ لك الحين، لم يعد له أي دور وظيفي في المرفأ. وتاريخ كف يد هزيمة عن العمل كمدير بالإنابة لإقليم بيروت (وتعيين هاني الحاج شحادة مديراً أصيلاً) ثم انتقاله إلى العمل في جمارك المطار إلى حين إحالته على التقاعد، شديد الاهمية. فهو يسبق بأيام القرار القضائي الذي سمح بتعويم السفينة روسوس، التي كانت تحمل شحنة نيترات الأمونيوم، وتخزين الشحنة في العنبر الرقم 12. ولم يكن لهزيمة أي دور في قرار إفراغ الشحنة (صدر بأمر من القضاء)، ولا بإدارة عملية تخزينها لاحقاً. الورقة الوحيدة التي تحمل توقيعه هي تلك التي وردته بالتسلسل الإداري من العقيد الراحل جوزف سكاف، في شباط 2014، محذّراً من خطورة بقاء نيترات الأمونيوم في السفينة، فأحالها هزيمة على الجهات المعنية “للعلم وإجراء المقتضى”، قبل أن تصبح الشحنة محل “نزاع قضائي” انتهى بتفريغها وبقائها حيث انفجرت بعد 6 سنوات. كذلك، لا بد من الإشارة إلى أن سلطة الجمارك تشمل البضائع التي يجري إنزالها إلى المرفأ، لا تلك الموجودة في السفن. رغم ذلك، قرر صوان الادعاء على شخص لم تكن له أي سلطة على النيترات قبل تفريغها في المرفأ، ولم يكن له أي عمل في المرفأ منذ ما قبل نقلها من السفينة إلى العنبر الرقم 12.
في المقابل، قرر صوان عدم الادعاء على العماد المتقاعد جان قهوجي، قائد الجيش السابق، رغم أنه امتنع عن القيام بأي إجراء لإتلاف كمية النيترات، التي كانت تحت الحراسة القضائية، ورغم أن السلطة الأمنية في المرفأ معقودة للجيش، كما هي الحال بالنسبة إلى ضبط الأسلحة والذخائر والمواد التي تدخل في صناعتها، على كامل الأراضي اللبنانية. وإضافة إلى ذلك، ارتأى صوّان عدم المس بأيّ من القضاة الذين لا تقل مسؤوليات بعضهم عن مسؤولية أي ضابط أو إداري أو حتى وزير أو رئيس حكومة، عن تفريغ شحنة النيترات وإبقائها “سالمة آمنة” حتى موعد تفجيرها.
هرطقة المحقق العدلي لا تقف عند ما سبق. فهو استدعى إلى التحقيق قبل ثلاثة أيام المدير العام بالتكليف لإدارة واستثمار مرفأ بيروت، باسم القيسي، باعتباره ممثلاً للإدارة التي سجّل صوان سابقة بادعائه عليها بوصفها شخصاً معنوياً. وهذه السابقة تشكّل خطراً على مرفأ بيروت، تتجاوز خطورة الانفجار نفسه على المنشأة العامة الأكبر في بيروت. فالادعاء هو عملياً على المرفأ. وبصرف النظر عن قانونية القرار أو مخالفته للتشريعات، إلا أنها تفتح الباب أمام تحميل المرفأ مسؤولية الانفجار، مع ما يعنيه ذلك من خطر الحجز عليه لاحقاً من قبل جميع المتضررين، طلباً للتعويضات، بدل تحميل المتورطين في الجريمة كلفة الأضرار.
ما يجري في التحقيق في تفجير المرفأ لا ينبئ بأن حقيقة ستُكتشَف وبأن مسؤوليات ستُحمّل لمرتكبين. فحتى اليوم، لم يُظهر المحقق العدلي أداءً يوازي خطورة الجريمة التي ارتُكِبت.