“القضيّة صارت أبعد بكتير من قضية حكومة”… لعلها العبارة الأصدق والأكثر إنباءً في البيان المكتوب الذي تلاه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل على مسامع الداخل والخارج، ليرشح شكلاً من سطوره “زيت” الدفاع عن حقوق المسيحيين في تركيبة السلطة مقابل إلقائه “الحرم” على باقي القوى المسيحية، أما من بين سطور الاتجار بحقوق المسيحيين فرشحت “مبايعة” باسيل لكل من الرئيس السوري بشار الأسد والأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله ومن خلفهما إيران، عبر رسالة مركزية أراد توجيهها إليهم مفادها: أنا “رأس حربتكم” المسيحية في مواجهة كل الطروحات والمبادرات، داخلية كانت أو خارجية، حكومية كانت أو غير حكومية.
على هذه الخلاصة تلاقت أغلب القراءات في تشريح المغزى الأساس من إطلالة رئيس “التيار الوطني”، خصوصاً وأنها لم تحمل أي جديد في جوهر مقاربته للملف الحكومي خارج نطاق التأكيد على كونه القابض الفعلي على توقيع رئيس الجمهورية، وعلى أنه “يبصم” بالموافقة على “يلّي بيقبل فيه حزب الله”. أما محاولة باسيل الإيحاء بأنه يحمل مبادرة جديدة للتأليف، فبقيت قاصرة عن التعمية على السياق الفاقع لتبجيله نظام الأسد باعتباره “الأنموذج الأمثل” لحكم المسيحيين في لبنان، وعن تمويه الصورة التي أراد تظهيرها في أعين “حزب الله” بوصفه “البارافان” المسيحي القادر على خوض معارك “الحزب”، سواء في مواجهة طروحات بكركي السيادية أو في قيادة دفة المسيحيين نحو “مؤتمر تأسيسي” جديد يطيح بدستور الطائف.
ومن هذا المنطلق، أتى تعمّد باسيل تهميش مبادرات ونداءات البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي في كلمته، مقابل تركيزه على إعلاء نموذج نظام الأسد والتفاهم مع “حزب الله” في منع تهميش المسيحيين وحماية حقوقهم، لإيداع كامل أوراقه في رصيد محور الممانعة، تأكيداً على وجوب الرهان عليه باعتباره “الحصان المسيحي الرابح” لهذا المحور في لبنان. أما في ما يتصل بالمواجهة المحتدمة بين “حزب الله” وبكركي على خلفية دعوة الراعي إلى مؤتمر دولي إنقاذي للهوية والكيان في لبنان تحت سقف تطبيقات “الطائف”، فبدا رئيس “التيار الوطني” واضحاً في إبداء جهوزيته، بما ومن يمثل مسيحياً، لخوض غمار “المؤتمر التأسيسي” وتكريس الأعراف التي أدخلها “حزب الله” على الحياة الدستورية بقوله: “يا ثبّتوا الثلث الضامن أو تفضّلوا على نظام جديد”، مع تصويبه في الوقت عينه على مناهضة فكرة تدويل الحلول للأزمة اللبنانية من خلال التشديد على أنّ “الدول بتساعدنا بس ما بتاخد محلّنا”.
وعلى أرض المعركة السيادية والمواطنية لتحصيل حقوق اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين على حد سواء، يواصل البطريرك الراعي إبداء تصميمه الوطني على “تحرير” قرار الدولة من قبضة الوصايات الداخلية والخارجية، فجدد أمس التمسك بالدعوة إلى انعقاد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة “من أجل إعادة إحياء لبنان، عبر تحصين وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن مؤتمر الطائف وتطبيقها نصّاً وروحاً وتصحيح الثغرات الظاهرة في الدستور”، لافتاً الانتباه إلى أنّ “الهدف الأساسي والوحيد هو تمكين الدولة اللبنانية من أن تستعيد حياتها وحيويتها وهويتها وحيادها الإيجابي”، بحيث تكون دولة “موحّدة بشرعيتها وقرارها وبمؤسساتها وجيشها ودستورها، ودولة قوية تبني سلمها على أساس مصلحتها الوطنية لا أساس مصالح دول أخرى”.
وفي الغضون، جددت موسكو الإضاءة على زيف الادعاءات بأنّ الغاية من عرقلة تأليف الحكومة هي “تحصيل حقوق المسيحيين”، كما يردد فريق “التيار الوطني الحر”، فأرسلت خلال الساعات الأخيرة “رسالة قاسية” إلى الطرف المعرقل لولادة “حكومة المهمة”، على لسان مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، الذي عقد “لقاءً عاجلاً” مع سفير لبنان في موسكو شوقي بو نصار، من أجل إبلاغ المسؤولين اللبنانيين هذه الرسالة “الحازمة” التي تعبّر عن انزعاج القيادة الروسية من التعطيل المستمر للتأليف.
وعلمت “نداء الوطن” أنّ بوغدانوف شدد خلال اللقاء على أنّ “المعرقلين لا منطق لديهم ولا حجج مقنعة للتعطيل”، وأكد وجوب “تكثيف الجهود لانجاح حكومة المهمة برئاسة سعد الحريري، على أن يكون الجميع متمثلاً فيها لكن من دون أن يستحوذ أي طرف على الثلث المعطل الذي قد يستخدم لتعطيل عمل الحكومة”، معرباً أمام بو نصار عن اتجاه روسيا إلى “تكثيف الاتصالات مع كل الأطراف للحث على الوصول إلى تأليف حكومة انقاذية، ولدعوة المعرقلين إلى تخفيف الشروط حفاظاً على مصالح لبنان وشعبه”.