“لأننا لم نعد قادرين على التفاهم”… عبارة اختصرت المعضلة الأساس في البلد وجسّد من خلالها البطريرك الماروني بشارة الراعي الحاجة الملحّة لرعاية أممية ودولية للبنان، وسط ما يشهده من حالة انقسام عمودي آخذة بالتجذّر يوماً بعد آخر بين محورين، محور السيادة والحياد وحفظ الهوية والكيان الذي تقود دفته بكركي، و”محور المقاومة والممانعة” الذي يقوده “حزب الله” في لبنان وترعاه إيران في المنطقة والتحق به رئيس الجمهورية ميشال عون مسخّراً موقع الرئاسة الأولى في قصر بعبدا في خدمة أجندة هذا المحور، حسبما جاهر القيادي العوني بيار رفول معلناً بالفم الملآن أنّ رئيس الجمهورية و”التيار الوطني الحر” ينتميان إلى محور الممانعة “وهذا شرف لنا”، مستبشراً خيراً برفع العقوبات الأميركية عن “الحوثيين” وبدء التفاوض معهم، باعتباره مؤشراً إلى بدء التفاوض الأميركي مع “العونيين” لأنّ “محورنا، أي محور الممانعة والمقاومة، انتصر”.
وبين العهد العوني الذي شدد رفول على أنّ طرحه لحماية لبنان هو “مثلث جيش وشعب ومقاومة”، وبين الطرح البطريركي الذي لا يرى بديلاً ولا رديفاً لحماية لبنان خارج إطار الشرعية وأحادية قرارها وسلاحها ضمن إطار مثلث “السيادة والحياد والميثاق”، تتباعد الطروحات وتكبر الهوة، لتعود بكركي، كما عند كل استحقاق مفصلي في تاريخ البلد إلى التشكل على صورة صخرة سيادية تلتف حولها القوى الرافضة للخضوع أمام الهيمنات والوصايات الداخلية والخارجية، والقوى المؤمنة بنهائية الكيان اللبناني والحريصة على عدم زواله وذوبان هويته تحت مدّ الأطماع والصراعات الإقليمية.
وفي هذا السياق، تتصاعد وتيرة الزيارات والاتصالات الداعمة لطروحات الراعي السيادية، عشية التظاهرة الحاشدة غداً في بكركي، وسط استئناف حركة المشاورات المكوكية حول الملف الحكومي مع البطريرك الماروني، الذي تلقى اتصالاً أمس من رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري تباحثا خلاله في مستجدات هذا الملف، بالتزامن مع زيارة المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم بكركي مؤكداً العمل على “استكمال الجهود” وتلاقي المساعي لحلحلة أزمة التأليف.
أما على خريطة المواقف السياسية من طروحات بكركي، فقد أخذت ملامحها بالتشكل بوضوح على الساحتين الوطنية والمسيحية، حيث الأغلبية الساحقة من القوى المسيحية بادرت إلى التقاط فرصة “الحياد والرعاية الدولية للبنان” التي لاحت من بكركي، باستثناء “التيار الوطني الحر” الذي التحق بسرب مسيحيي “محور الممانعة” وأصبح يغرد بعيداً عن المزاج المسيحي العام. وكذلك على الساحة الوطنية بات من الواضح أنّ طرح الراعي استقطب قوى وشخصيات وحركات وتجمعات من مختلف الطوائف والمذاهب تأييداً لخيار الشراكة الوطنية في تحرير قرار الدولة وحيادها على قاعدة استعادة الثوابت المشتركة بالارتكاز إلى مسلّمات وثيقة الوفاق ودستور الطائف والشرعيتين العربية والدولية.
في حين استرعت الانتباه المواقف “الاشتراكية” المتقدمة في الإعراب عن تأييد طروحات بكركي على وقع تصاعد حدة انتقاد رئيس “الحزب التقدمي” وليد جنبلاط لكل من العهد العوني و”حزب الله” في مقاربتهما للأزمة اللبنانية، لا سيما مع سؤاله “الحزب” أخيراً ما إذا كان يؤمن بأنّ “لبنان هو الوطن النهائي أم أنه مجرد منصة صواريخ وقاعدة متقدمة لإيران على البحر المتوسط؟ لتتدرج بعدها المؤشرات الدالة على التموضع “الاشتراكي” في خندق سيادي واحد مع بكركي، من زيارة الوزير السابق غازي العريضي وما حملته من مواقف ورسائل، وصولاً خلال الساعات الأخيرة إلى تصويب النائب أكرم شهيب مباشرة على ثنائية عون – “حزب الله” باعتبارها “صلب المشكلة… فرئيس الجمهورية ميشال عون الذي أخذ شعب لبنان رهينة يقف في واجهة الأزمة، وحزب الله خلفه”.
ميدانياً، وبينما تتكثف التحضيرات الشعبية لزيارة بكركي غداً دعماً لمواقف البطريرك الراعي، سُجّلت في المقابل محاولات تشويش على هذا التحرك عبر ضخ حملة شائعات هادفة إلى تخويف الناس من المشاركة فيه، وصلت إلى حدّ فبركة أنباء تتحدت عن أنّ الجيش اللبناني سيقيم حواجز في جونية والمناطق المحيطة لعرقلة وصول المتظاهرين إلى الصرح البطريركي. الأمر الذي وضعته مصادر عليمة في خانة “الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة” مطمئنةً إلى أنّ طريق اللبنانيين “سالكة وآمنة” إلى بكركي، وقالت لـ”نداء الوطن”: “الجيش بخلاف ما يشاع، سوف يتخذ التدابير اللازمة من أجل تسهيل وصول الحشود إلى بكركي وحمايتهم لا عرقلتهم، وكل كلام غير ذلك هدفه إستهداف المؤسسة العسكرية والبطريرك الراعي على حدّ سواء”، مضيفةً: “الجيش ملتزم بحماية الشعب حسب تأكيدات قيادته، ولن يستطيع أحد جرّه إلى مشكل مع أهل بلده أو إدخاله في الزواريب السياسية أو إستخدامه كأداة للسلطة أو لأي جهة كانت من أجل تحقيق مآرب سياسية”.