على رغم انحسارها قياساً باليوم الأول، لم يكن مرور اليوم الثاني من التحركات الاحتجاجية في المناطق وتواصل قطع الطرق الرئيسية والاوتوسترادات والاعتصامات في بيروت ومعظم المدن والبلدات على امتداد المحافظات اللبنانية سوى الاثبات القاطع على فشل المحاولات المتعددة من هذا الجانب السياسي او ذاك على توظيف بدايات الانفجار الاجتماعي في تفسيرات وقراءات تخدم الصراع السياسي ولا تقدم او تؤخر شيئا في حقيقة بدء مرحلة قد تكون محفوفة بأقصى الاخطار. ذلك ان الواقع الدراماتيكي الأكثر اثارة للدهشة لم يرتسم حتما في الحركة الاحتجاجية التي تعبر عن عمق الاعتمال الذي يخزنه اللبنانيون بسبب تراكم الكوارث وخصوصا اليوم بالذات، مع ذكرى مرور سبعة اشهر على انفجار مرفأ بيروت. بل ان ما يفترض ان يثير مزيدا من الترددات الصادمة لدى اللبنانيين بعد كل هذه الاهوال ان ينقشع امس مشهد السلطات المعنية أصلا بحماية اللبنانيين ودرء اخطار الانهيارات عنهم عن مضيها في سياسات الانكار وطمر الرؤوس في الرمال او تبادل وتقاذف كرة الاتهامات بتحمل التبعات والمسؤوليات عن بلوغ الانهيار المالي حداً بالغ الخطورة مثله تجاوز سعر صرف الدولار في السوق السوداء العشرة الاف ليرة ولو انه انحسر بنسبة محدودة جدا امس عن هذا السقف. سياسات وأنماط الانكار وغسل الايدي من تبعات الكارثة سرعان ما تصاعدت امس انطلاقا من رأس الهرم في الدولة ولم تقف عنده فقط، بل تمددت الى القطاع المصرفي نفسه، فيما بدت القوى السياسية بمعظمها واجمة ومتهيبة التطورات الجديدة الامر الذي تتكرر معه الى حد بعيد أصداء الفرز السياسي الحاد الذي نشأ عقب اندلاع الانتفاضة في 17 تشرين الأول 2019 مع فارق كبير هذه المرة يتمثل في الاهتراء الواسع الذي يطبع واقع اللبنانيين من جهة والانكشاف الكبير والخطير للسلطة والعهد والدولة من جهة ثانية.
في ظل هذه الصورة بدا غريباً ان تظهر معالم محاولة لتبرئة العهد والسلطة السياسية الرسمية من أي تبعة عن التطورات المالية الخطيرة الأخيرة ورمي الكرة بالكامل في ملعب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والقطاع المصرفي ولو ان أحدا لا يمكنه تجاهل مسؤولياتهما، ولكن بدا كأن ازمة تعطيل الحكومة لا تلعب أي دور في هذا الانهيار او كأن العهد يريد إعادة رمي التبعة على جميع الاخرين وغسل يديه من مسؤوليته الأساسية والاكبرعن مجريات الازمات المتلاحقة. ذلك ان البيان الذي أصدرته رئاسة الجمهورية امس اوحى ان الرئيس ميشال عون اخضع سلامة للتحقيق اذ أورد البيان مجموعة أسئلة اتهامية وجهها عون الى سلامة من دون ايراد شيء عن أجوبة الحاكم بما يترك الانطباعات عن الطابع الاتهامي الذي صيغ عبره البيان.
وقد افاد بيان رئاسة الجمهورية ان عون طالب حاكم مصرف لبنان “بمعرفة الأسباب التي أدّت إلى ارتفاع سعر الدولار إلى هذه المستويات لاسيّما في الأيّام القليلة الماضية، وإطلاع اللبنانيين، تأميناً للشفافيّة، على نتائج التحقيق الذي تجريه هيئة التحقيق الخاصة. كما طالبه بإحالة هذه النتائج إلى النيابة العامة ليصار إلى ملاحقة المتورّطين في حال ثبت وجود عمليّات مضاربة غير مشروعة على العملة الوطنيّة من جانب أفراد أو مؤسسات أو مصارف”.
وإذ غابت كل معالم المسؤوليات السياسية عن تعطيل الحكومة عن بيان بعبدا برز مساء خبر مغادرة الرئيس المكلف سعد الحريري مجددا بيروت الى دولة الإمارات العربية المتحدة بما يثير مزيدا من الظلال القاتمة على المشهد السياسي عموما اذ تبرز هذه المغادرة في توقيتها، ان لا شيء يتحرك فعلا على مسار تاليف الحكومة الجديدة ولو عزي سفر الحريري الى برنامج مقرر مسبقا لاستكمال تحركه العربي والخارجي.
ومن بعبدا الى عين التينة الى بيت الوسط الى كل الاحزاب لم يتجرأ احد على عدم الاقرار بأن الاحتجاجات محقة ومشروعة الا ان هذا الاجماع يتوقف عند حدود القراءات المختلفة لدى كل طرف للخلفيات والغايات السياسية، وتبادل الاتهامات حول التوظيف السياسي لتحرك كل شارع.
موجة التفسيرات
اوساط العهد والتيار الوطني الحر تعتبر ان منطلق الاحتجاجات كان ارتفاع الدولار الذي حصل نتيجة شراء المصارف الدولارات من السوق لتطبيق تعميم المصرف المركزي وزيادة الرسملة بالعملات الاجنبية. والاحتجاجات بدأت عفوية في بعض المناطق لكن حصل لاحقاً استثمار سياسي لها من بعض الجهات التي تحرك الشارع لاسيما في مناطق معينة. وهذه الاحتجاجات التي بدأت فعلاً بسبب ارتفاع الدولار سرعان ما تحولت الى لعبة سياسية بهدف توتير الاجواء ورفع منسوب الضغط على عملية التأليف الحكومي.
ووفق التقارير الامنية ان الاتجاه كان بفتح الجيش الطرق، لكن عندما تبيّن ان اللعبة سياسية وقد تؤدي الى مواجهة مع القوى الامنية، وقف الجيش جانباً وترك الاحتجاجات تأخذ مداها كفشّة خلق الى ان اعيد فتح الطرق في الليل بشكل تلقائي.
أما في الملف الحكومي، فلا تقدم بل جمود. وهذه الاوساط تشير الى ان رئيس الجمهورية جاهز ومنفتح على بحث النقاط الحكومية العالقة وفق المعايير التي وضعها، لكن الرئيس الحريري هو الذي يرفض النقاش بعدما وضع الورقة لدى الرئيس عون وغادر ولَم يعد.
وعلى هذا الاساس ، تحركت الوساطات من اللواء عباس ابرهيم والبطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي. وساطة اللواء ابراهيم ليس بعيداً عنها الرئيس نبيه بري، الذي انكفأ بعدما لم يجد لمبادرته صدى ايجابياً، بحيث وافق عليها الجميع وان لم يلتزم تنفيذها احد. وتؤكد اوساط حركة “أمل” انها لم تشارك في الاحتجاجات التي خرجت في الشارع والتي لم تكن الا تحركاً شعبياً عفوياً وطبيعياً نتيجة الفقر والجوع، وعلى المسؤولين المعنيين التنبه من خطورة انفلات الشارع والانفجار الاجتماعي الذي قد يطيح كل شيء.
وتنبّه هذه الاوساط، الى اننا اذا كنا ننتظر المجتمع الدولي ليساعدنا على تأليف حكومة، فرسالته المستمرة للبنانيين انفسهم بأن يشكلوا حكومة. كما تنبه هذه الاوساط من تدحرج الوضع الامني ازاء الانسداد الحكومي.
“حزب الله” يفهم من اوساطه، انه غير معني بتحرك الشارع الا انه يتمنى ولادة الحكومة ومساعيه مستمرة من اجل معالجة الخلاف الكبير جداً بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، هذا مع الاقرار بصعوبة ترميم العلاقة بينهما وبصعوبة ولادة الحكومة في ظل هذا الواقع المسدود.
“القوات اللبنانية” تستغرب اتهامها بتحريك الشارع للضغط في الملف الحكومي،وهي غير معنية فيه ولا ترى الانقاذ بالحكومة بل بإعادة انتاج السلطة عبر الانتخابات، وتستغرب الباس التحركات الشعبية العفوية لبوساً سياسباً فيما التظاهر محق وطبيعي امام الانهيار الشامل الحاصل في البلد.
نفي مصرفي
وفي مقابل الانكار للتبعات والمسؤوليات السياسية عن الانفجار الاجتماعي الذي بدأت تلوح معالمه مع تجدد الانتفاضة، انبرت جمعية المصارف الى التنصل من كل المسؤوليات التي تتحملها او الانتهاكات التي اتهمت بها رمت بدورها التبعات الأساسية على السلطة السياسية. وإذ نفت الجمعية أي دور للمصارف في ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء عزت هذا الارتفاع الى مجموعة أسباب من ابرزها “الضبابيّة السياسية في البلاد في ظلّ التخبّط السياسي والتجاذبات والمناكفات في غياب أي جهد جدّي وحقيقي لتأليف الحكومة العتيدة، والاستيراد غير المدعوم من مصرف لبنان بحيث يلجأ المستوردون الى السوق السوداء لتأمين الدولارات النقدية المطلوبة، و شحّ الدولار في السوق المحلّية في سياق انخفاض حركة الأموال الوافدة بشكل ملحوظ، والتداول الناشط بصورة غير شرعية للدولار عبر المنصّات الإلكترونيّة، ما يستوجب الملاحقة القانونية لإقفال هذه المنصّات”.
جعجع …وجنبلاط
اما في المواقف السياسية فبرز امس موقف تصعّيدي لرئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في وجه السلطة والأكثرية اذ سأل “رئيس الجمهورية ورئيس حكومة تصريف الاعمال والاكثرية النيابية، هل هم لا يرون ولا يشعرون بكل ما يحصل على الارض؟”، مشددا على ان “الطريق الاقرب والاقصر للخروج من الازمة هي الانتخابات النيابية المُبكرة، الى جانب حل التدويل. لذا ادعو باقي النواب الى الاستقالة من المجلس النيابي وللذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة، ومع الانتخابات ستتغير الاكثرية النيابية وسنذهب الى انتخاب رئيس جديد وحكومة جديدة”. ورأى ان “الحل إمّا باستقالة الاكثرية النيابية واستقالة رئيس الجمهورية، او استقالة اكبر عدد من النواب والذهاب الى انتخابات مبكرة” .
وبدوره حذر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط مساء امس من الذهاب الى فوضى داخلية أوسع اذ لفت الى ان “ما حصل اول من امس كانت فوضى مصغرة لكن عند ارتفاع اكبر في سعر الدولار ستكون هناك فوضى اكبر فماذا سيفعل العسكري عندما يصبح راتبه ستين دولارا؟”. وأشار الى “اننا ذاهبون الى فوضى داخلية نتيجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي ولا أرى أي افق لحرب داخلية” وشدد على الحاجة الى حوار والى دولة مسيطرة واستحداث نظام اقتصادي جديد لانه لم يبق شيء من لبنان”.