في جزيرة “عونستان” المنفصلة عن أرض الواقع والمستقلة عن أوجاع الناس، لم تعد قلة الإدراك “مصيبة” اللبنانيين بل أضحت مصيبتهم “أعظم” لأنهم يدرون أنّ العهد الحاكم يدري يقيناً ماذا جنى عليهم من مصائب وويلات، ولا يزال يُمعن في سياسة استغباء الناس وقهرهم وإذلالهم على مذبح حالة الإنكار والتنصل من المسؤوليات.
فاجتماع قصر بعبدا بالأمس، وعلى الرغم مما عكسه شكلاً من عراضة رئاسية – اقتصادية – مالية – أمنية، لكنه لم يتمخض في جوهره سوى عن مزيد من التعامي عن الوقائع والهروب إلى الأمام في مقاربة الأزمة، إلى درجة لم يُخف أمامها مناضل عوني سابق حسرته إزاء “نهاية تلك المسيرة النضالية التي بدأت مع ميشال عون على صورة “جنرال ثوري” أواخر الثمانينات، وانتهت به اليوم على صورة الحكام الديكتاتوريين الذين توعدوا الثوار بالقمع والملاحقة على الأرض “شبر شبر وزنقة زنقة” كما قال الرئيس الليبي المخلوع معمر القذافي في عبارته الشهيرة غداة اندلاع الثورة الشعبية في بلاده”.
وفي السياق نفسه جاءت التعليقات السياسية المعارضة والشعبية الثائرة لتجسد حالة الذهول والخيبة إزاء ما خلص إليه اجتماع قصر بعبدا، لا سيما وأنّ المقررات التي أذاعها المستشار الرئاسي أنطوان قسطنطين بأسلوب غلب عليه الطابع “الانقلابي الشعبوي”، لم تخرج عن سياق اللجوء إلى سياسة “تغذية الذهنية المؤامراتية” التي عادة ما تنتهجها الأنظمة القمعية، في محاولة لإقناع المواطنين بتصدي السلطة لـ”جهات ومنصات خارجية” معادية تعمل على تجويعهم وتهديد أمنهم الاجتماعي والوطني وضرب النقد ومكانة الدولة المالية، وفق ما استهلّ رئيس الجمهورية حديثه في الاجتماع، قبل أن ينتهي إلى الإيعاز للأجهزة العسكرية والأمنية بمنع الثوار والمتظاهرين من قطع الطرق باعتباره “أمراً مرفوضاً وعملاً تخريبياً منظّماً يهدف إلى ضرب الاستقرار”!
وإذ وصفت مصادر سياسية اجتماع بعبدا الذي ترأسه عون بحضور رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وعدد من الوزراء وقادة الأجهزة الأمنية والقضائية إلى جانب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وعدد من المصرفيين والصيرفيين، بالاجتماع “الفوفاش” الذي يعبّر خير تعبير عن “تفليسة الطبقة الحاكمة وعقم الرهان عليها في أي عمل إصلاحي إنقاذي”، لفتت في المقابل إلى أنّ اجتماع اليرزة الذي عقده قائد الجيش العماد جوزيف عون مع أركان القيادة وقادة الوحدات العسكرية أتى بخلاف ذلك “على قدر معاناة اللبنانيين بعدما حاكى في مضامينه وجع العسكر والناس على حد سواء تحت وطأة انعدام المسؤولية لدى الطبقة الحاكمة”، منوهةً بكون “الرسائل” التي أطلقها قائد الجيش في كلمته استطاعت بجدارة أن “تعرّي المسؤولين وتفضح تواطؤهم وتآمرهم على المؤسسة العسكرية” خصوصاً حين توجه إليهم بالسؤال: “أتريدون جيشاً أم لا؟ أتريدون مؤسسة قوية صامدة أم لا؟”، وأضاف: “العسكريون يعانون ويجوعون مثل الشعب فإلى أين نحن ذاهبون، ماذا تنوون أن تفعلوا، حذرنا أكثر من مرة من خطورة الوضع وإمكان انفجاره”، منبهاً في مقابل الحملات التي تهدف إلى جعل الجيش “مطواعاً”، إلى أنه لن يسمح بأن يكون “مكسر عصا لأحد”، مع إبداء أسفه لكون المعنيين “لا يهمهم الجيش أو معاناة عسكرييه (…) وهم يدركون أنّ فرطه يعني نهاية الكيان”.
أما الرسالة الأهم في ما يتصل بالتحركات الاحتجاجية، فاختزنت تأكيداً من قائد الجيش على الجهوزية التامة لتولي مهمات حفظ الأمن والاستقرار “لكن من دون إبداء أي جهوزية لقمع المواطنين والتصادم معهم خدمةً لأجندات سلطوية وسياسية”، حسبما لاحظت المصادر، مشيرةً إلى أنّ كلمة العماد عون أمس، التي صادفت الذكرى السنوية الرابعة لتوليه قيادة المؤسسة العسكرية، عبّرت عن “ارتفاع منسوب الامتعاض والاستياء في صفوف العسكريين جراء محاولة دفعهم إلى تحمّل تبعات الفشل السياسي في إيجاد الحلول المناسبة للأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتفاقمة في البلاد، من خلال الزج بهم على جبهات داخلية للتصدي لتحركات شعبية منتفضة على تردي الأحوال المعيشية”.
وفي السياق عينه، ترددت معلومات موثوق بها تفيد بأنّ اجتماع بعبدا الموسّع أمس لم يخلُ من “أجواء متوترة” على خلفية الضغط السياسي الكبير على الجيش لدفعه نحو فرض “حلول عسكرية” على الأرض في مواجهة الحراك الشعبي، الأمر الذي لم يتوانَ قائد الجيش عن رفضه بصورة مطلقة، انطلاقاً من قناعته بأنّ الحلول يجب أن تكون إصلاحية بالدرجة الأولى وهي تقع على عاتق السياسيين، أما واجب حفظ الأمن فهو يقع على عاتق كافة الأجهزة الأمنية وليس من المعقول ولا من المقبول الاستمرار في تكليف الجيش وحده بمهمات لوجستية تتعامل مع الوحدات العسكرية وكأنها “شرطي مرور” مكلف فتح منافذ لخطوط السير في هذا الاتجاه أو ذاك.