دخل لبنان في الفوضى، من فوضى الأسعار إلى فوضى الأسواق، ولا يوجد ضابط إيقاع، فلا الحكومة المستقيلة تقوم بدورها بالمراقبة والمتابعة والسهر على مصالح الناس والعباد، ولا الحكومة العتيدة خرجت من رحم التعطيل لتتحمّل مسؤولياتها في لجم التدهور وفرملة الانهيار، وبين الحكومة المستقيلة والحكومة العتيدة تحوّل الدولار حديث الناس في ظل ارتفاعه المتواصل بلا ضوابط ولا كوابح بما ينذر بمخاطر كبرى على الاستقرار الهش في حال لم يتم لجمه سريعاً، واللجم غير ممكن من دون تأليف سريع للحكومة يضع جانباً الخلافات غير المفهومة ولا المبررة في لحظة مصيرية يعيشها لبنان.
وفي موازاة الناس الغاضبين الذين يقفلون الطرق يوميا في أكثر من منطقة لبنانية تعبيراً عن سخطهم وهلعهم وخوفهم على مصيرهم، برزت ظاهرة جديدة غير مسبوقة في التاريخ اللبناني وتكمن في إقفال الناس مصالحهم طوعاً، فالناس الذين يعملون ليعيشوا، تحوّل عملهم مصدر خسارة لا ربح له مع الارتفاع الجنوني للدولار، الأمر الذي انسحب على أكثر من قطاع ومجال حيوي والحبل على الجرار، وتحوّل المشهد في لبنان قاتماً وحزيناً، من المحال المقفلة، إلى الناس الغاضبين والمتشائمين الذين دبّ الهم واليأس في نفوسهم.
على رغم من قتامة هذا الوضع وخطورته على ما تبقى من استقرار في حال استمراره على هذا المنوال من التردي والتدهور، لا مؤشرات بعد إلى حلحلة حكومية، بل ما زال شد الحبال والكباش قائماً وكأن لبنان في ألف خير، فيما تأليف الحكومة كاف وحده اليوم بفِعل الصدمة الإيجابية التي يحدثها من خفض سعر الدولار وفرملة الانهيار، ولكن ماذا ينتظر أصحاب الشأن ليبادروا إلى التأليف فوراً، فيما هم لا يكترثون إلى أصوات الناس ولا إلى تحذيرات المجتمع الدولي ودعواته إلى الإسراع في التأليف؟
وقد أصبح الكلام عن الوساطات وكأنه لملء الوقت الضائع، لأن كل هذه الوساطات اصطدمت بجدار سميك من التعنُّت بالشروط والشروط المضادة، فيما البلد ينزف والناس يصرخون والأخطر لم يأت بعد.
مزيد من الانهيار
ولاحظت مصادر مشاركة في الاتصالات «ان لبنان يمضي الى مزيد من الانهيار… لأن كل الطرق الى ولادة حكومة وشيكة تم تدشيمها وبات فتح ثغرة في الجدار المسدود من اصعب المهمات، حتى لا نقول انه المهمة المستحيلة في ظل حال التعنت السائدة وما يرافقها من كباش غير مسبوق وغياب للمحركات الدولية التي ستحتاج حالياً الى الاستعانة بكاسحة ألغام لشق طريق الحل وتعبيدها».
وعلمت «الجمهورية» انّ مبادرتَي رئيس مجلس النواب نبيه بري والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم المطروحتين حاليا لحل الازمة وصلتا الى طريق مسدود، وأنّ الاجواء التي رافقت الاجتماعات الأخيرة كانت سلبية، خصوصاً الاجتماع بين رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل ومسؤول الارتباط والتنسيق في «حزب الله» الحاج وفيق صفا الذي انتهى الى تمسّك باسيل ليس فقط بـ»٦ + ١» بل تعدّاه الى «٦+ ١+١»، بحسب مصدر رفيع مواكب لهذه العملية، كاشفاً انّ الرئيس المكلف سعد الحريري وافق على المخرج المتعلق بوزارة الداخلية بحيث يسمّي لها رئيس الجمهورية ميشال عون إسماً يحظى بموافقته، معلناً جهوزيته لأي حل تحت سقف عدم إعطاء مفتاح الحكومة لباسيل، لكن الاخير اكد انه لا يثق بقيادة الحريري ولن يسلّمه «على العِمياني» قرار الحكومة». وخلص المصدر الى القول: «خلص ما بقى نتضحّك على بعضنا الرئيس عون وباسيل لا يريدان الحريري رئيسا للحكومة، وهذا صلب المشكلة القائمة بعدما سقطت كل الذرائع». واضاف: «إن اجتماع المصالحة الاخير الذي رعاه رئيس الجمهورية لترتيب بيت التيار العوني افضى الى توحيد الموقف ولملمة الصف». وتخوّف المصدر من «تدهور مستطير للوضع الاجتماعي والامني يأخذ منحى فوضوياً يترافق مع تفلت سريع لسقوف الدولار». وكشف انه «في ظل انسداد الافق السياسي يُعمل حاليا على امكانية لجم ارتفاع الدولار بكل السبل لضبط الامور قدر الامكان».
لا حراك
ولم يشهد قصر بعبدا ولا «بيت الوسط» أمس اي حراك يتعلق بمصير تشكيل الحكومة العتيدة في انتظار اي جديد يمكن ان تحمله التحركات الخارجية. وانشغلت الاوساط السياسية بما كشفه وزير الداخلية السابق مروان شربل أمس بعد زيارتَيه لبري واللواء ابراهيم، لافتاً الى انه تبلّغ من بري «انّ مبادرته ما زالت مطروحة، وربما أخذت مداها في الأيام القليلة المقبلة، والتي اقترح فيها حكومة من 18 وزيراً خالية من اي «ثلث معطل» على ان يسمي عون وزير الداخلية ويوافق عليه الحريري.
ما نقله شربل عن بري
وقال شربل: «انّ الرئيس بري ابلغني أن الرئيس الحريري قبِل بمبادرته في انتظار زيارة اللواء عباس إبراهيم إلى بعبدا لطرح المبادرة على الرئيس عون». ولكن ما كان لافتاً انه وفي الوقت الذي كشف فيه شربل عن هذه الصيغة بعد ظهر امس نقلاً عن بري، علمت «الجمهورية» ان اللواء إبراهيم كان قد التقى رئيس الجمهورية صباحاً من دون اي تأكيد لصحة هذه الرواية التي لم تشر اليها مصادر اطلعت على اجواء لقاء بعبدا الصباحي.
وما نفته بعبدا
وكانت اوساط قصر بعبدا قد نفت عبر «الجمهورية» رواية أخرى جرى تداولها امس، ومفادها انّ حلاً ما تم التوصّل إليه لعقدتي وزارتي الداخلية والعدل، بحيث ستبقى وزارة الداخلية من حصة رئيس الحكومة وتبقى وزارة العدل من حصة رئيس الجمهورية، على ان يتنازل نهائياً عن «الثلث المعطل».
عجز عن المخارج
وعلى وقع المشاهد المأسوية التي تقاسمتها السوبرماركت والمحلات التجارية التي اقفلت ابوابها باكراً او انها اخضعت بيع المواد الغذائية لتقنين قوي للحد من نفاد مخزونها، عجزت المواقع الرسمية عن تقديم اي مخرج او صيغة لوقف هذه «المهزلة» فيما بقي التلاعب باسعار الدولار امس على حاله بحيث انه تراوح نهاراً بين 14500 ليرة وبلغ الذورة ظهراً بارتفاعه الى 17 الف ليرة قبل ان يتراجع عصراً الى نحو 14 الفاً، من دون ان تشهد السوق المصرفية اي عمليات بارزة سوى ما عكسته من قلق لدى المواطنين والتجار في آن.
ينصحون ولا يقررون
وعلى رغم من حال الفوضى بقيت المراجع الرسمية في موقع الناصح، وشددت مصادر رسمية في مواقع رفيعة عبر «الجمهورية» على ضرورة مواجهة «مشهد الانهيار النقدي والمالي والإقتصادي والتلاعب بلا سقوف بسعر العملة الوطنية. وبدل ان تقترح ما يمكن القيام به، شاركت المواطنين في التحذير مما يحصل من تهافت على شراء السلع والمحروقات». وأضافت: «انّ الوضع لم يعد يطاق»، ورَدّته الى انه «ليس وليد اليوم، بل منذ زمن، لكنه في الاشهر الاخيرة بلغ مستويات قياسية في سلم المعاناة».
الكارثة تقترب
إقتصادياً ومالياً ومعيشياً، بدا المشهد أمس جنونياً بكل معنى الكلمة. الدولار خرق كل السقوف السابقة وتجاوز الـ15 الف ليرة، بما يعني أن الحد الأدنى للأجور في لبنان تراجع الى ما دون الخمسين دولارا في الشهر. في حين انّ الحد الأدنى للأجور في سيريلانكا يبلغ 62 دولارا، وفي انغولا 58 دولارا. ما يعني ان القدرة الشرائية للمواطن اللبناني تراجعت الى مستويات مرعبة، هذا من دون احتساب نسبة البطالة التي تواصل الارتفاع باضطراد، بسبب تواصل إقفال المؤسسات تباعاً.
ولوحظ انّ التجار باشروا رفض تقاضي الليرة وصاروا يشترطون القبض بالدولار. وبدأت تظهر مؤشرات اضافية الى مزيد من الدولرة، بحيث ان الليرة بدأت تفقد قيمتها كعملة صالحة للاستخدام.
في الموازاة، يرتفع منسوب الغضب والهلع لدى الناس، وكما حصل من قبل، أقدمت بعض المحال على اقفال ابوابها، بعد الفوضى التي دبّت نتيجة الاخبار التي كانت تتوالى حول الارتفاع الصاروخي للدولار. وفي رأي خبراء المال والاقتصاد انّ مرحلة الانهيار السريع قد تكون بدأت، بحيث انّ هناك خطراً من دخول البلاد في مرحلة ما يعرف بالتضخم المفرط (hyperinflation) بما يعني الوصول الى مشهد اكثر سوداوية في الايام المقبلة.
والى ذلك، توالت المصائب خصوصا على المستوى الاستشفائي، حيث هددت المستشفيات بأنها تتجه نحو الانهيار، وانها قد تقفل ابوابها في حال لم تبادر الجهات الضامنة الى تعديل تعرفة الاستشفاء. والمشكلة هنا ان تعديل التعرفة، واعتماد تسعيرة الدولار على 3900 بدلا من السعر الرسمي، يعني ان الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي سيتعرض للافلاس، وتقع الكارثة. واذا لم يتم تعديل التعرفة سيكون مصير المستشفيات في خطر، وهذا هو النفق الذي دخل فيه البلد.
السلفة او العتمة؟
من جهة ثانية، ناقشت اللجان اقتراح قانون معجل مكرر لإعطاء مؤسسة كهرباء لبنان سلفة خزينة بقيمة 1500 مليار ليرة لعام 2021. ولكنها بعد جدال واعتراضات كثيرة أقرّت إعطاء المؤسسة سلفة بقيمة 300 مليار ليرة فقط، وكأنها قررت تقسيط المبلغ الاجمالي الى 5 اقساط، في ظل اعتراض نواب كتلتي «الجمهورية القوية» و»اللقاء الديموقراطي».
وقال نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي الذي ترأس الجلسة: «كانت هناك محاولة تحمل المسؤولية المتعلقة بضرورة عدم الوصول الى العتمة، فكان التسليم بمبدأ ان يقر فقط 300 مليار ليرة للحؤول دون هذه الحالة. ولكن يجب ان يعلم المواطن انّ هذا الموضوع يمكن ان يعاد بحثه، وان المال الذي سيدفع سلفة للمحروقات هو مال المودعين في مصرف لبنان البالغ 17 مليار دولار. نرفض رفضا قاطعا ان نموّل واقعنا السلبي وما افتعلت الايدي المسؤولة عنه من أموال المودعين، على اساس ان يخدم سنة او سنتين. هذا امر مرفوض». واضاف: «جئت لأقول بوضع حدّ لمد اليد على اموال المودعين او تحريض البنك المركزي او دفعه الى مد اليد عليها، (…) الـ17 مليار دولار اموال المودعين، ويجب ان ترد اليهم بلا تردد. واقول في المرة المقبلة، وان شاء الله تكون قد تألفت حكومة وشقت الاوضاع طريقها الى الخلاص، يجب عدم المصادقة على أي سلفة تحت شعار امّا العتمة او المصادقة. في المرة المقبلة سنقول ارحلوا او العتمة».
الاحتجاجات
وعلى وقع تقلّب سعر الدولار في السوق السوداء، وارتفاع لأكثر من ألف ليرة في أقل من 24 ساعة، إشتدّت الاحتجاجات واستمرّ اقفال الطرق في بيروت ومعظم المناطق.
فضمن نطاق بيروت اقفلت الطرق في كورنيش المزرعة، وقرب دار الطائفة الدرزية في فردان، ومصرف لبنان وشارع الحمرا الرئيسي وتقاطع الراشدين، والكولا ووسط بيروت عند تقاطع جامع الامين، والطريق أمام مبنى التفتيش المركزي، وفي الأوزاعي عند تقاطع الميكانيك، وعلى المدخل الجنوبي للعاصمة في خلدة. وجاب عدد من المحتجين شوارع العاصمة بدراجاتهم النارية. في حين اقتحم شبّان في الضاحية الجنوبية إحدى محلات السوبرماركات الكبرى، وقاموا بتوزيع الزيت المدعوم المخبّأ على الزبائن.
أمّا في المتن، فقد قطع المحتجون مساء أوتوستراد الدورة في الاتجاهين، واوتوستراد نهر الموت امام كنيسة مار انطونيوس.
وشمالاً، قطع المحتجون عدداً من الطرق الرئيسة والفرعية من طرابلس الى عكار مروراً بزغرتا والكورة، وأفيد مساء عن اقدام محتجين على تكسير مدخل مبنى مكتب للرئيس نجيب ميقاتي وخلع الكاميرات والواجهات ونزع صور ميقاتي وإحراقها.
وفي الجنوب سجّلت أمس سلسلة احتجاجات بدأت صباحا مع سائقي السيارات العمومية أمام مدخل السوق التجاري في صيدا، حيث قطعوا الطريق المؤدّي إليه لبعض الوقت، ثم عادوا أدراجهم إلى ساحة تقاطع إيليا حيث أقفلوا طرقها بسياراتهم قبل أن يعاود الجيش فتحها. في حين قطع محتجون المدخل الرئيسي لمدينة صور عند مفترق العباسية بأجسادهم رافعين صور الامام موسى الصدر.
وفي البقاع، قطعت الطرق في سعدنايل، دير زنون، كسارة، المصنع، مستديرة زحلة، رياق في اتجاه بعلبك، وطريق عام ترشيش – زحلة محلة التويتي.
أمّا في بعلبك، فأفيد انّ مجموعة من الشبان قطعت طريق عام رياق بعلبك الدولية عند مفترق بريتال. ومساء نفّذ عدد من الشبان وقفة احتجاجية في ساحة الشاعر خليل مطران مقابل قلعة بعلبك الأثرية احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية.
شائعات «النفط الايراني»
وبعدما تداول احد المواقع الالكترونية ومجموعات «الواتس آب» امس معلومات نسبتها الى «موقع الجمارك العراقية» عن تسهيل مرور 10 صهاريج محملة بمادة البنزين آتية من الجمهورية الاسلامية الايرانية كمساعدة لدولة لبنان، وفيما تبين انه لا صفة لمثل هذا الموقع الالكتروني ولم تظهر المعلومات هوية «قافلة الصهاريج» التي نشرت الى جانب الخبر من دون تحديد هويتها ولا مكان وجودها، اوضحت المديرية العامة للنفط في وزارة الطاقة والمياه «أن لا علم لها بهذا الامر، وأنها لم تتسلّم أي طلب للاستحصال على إجازة استيراد لمادة البنزين بواسطة الصهاريج كونها هي المرجع الصالح لمنح إجازات كهذه بحسب القوانين المرعية الإجراء».
… وشائعات عن البريطانيين
وعلى وقع الشائعات التي سرت منذ ظهر امس ومساء، والتي طاولت الجالية البريطانية في لبنان، أعلنت السفارة البريطانية على مواقع التواصل الاجتماعي أنه «يتم تداول أخبار غير صحيحة عن تحذير من السفارة البريطانية لرعاياها بعدم التنقل في الأيام المقبلة. إن ذلك عار عن الصحة. ويمكنكم البقاء على اطلاع دائم على نصائح السفر إلى لبنان عبر هذا الرابط التالي https://www.gov.uk/foreign».
كورونا
وعلى الصعيد الصحي، أعلنت وزارة الصحة العامّة في تقريرها اليومي امس حول مستجدات فيروس كورونا عن تسجيل 3480 إصابة جديدة (3467 محلية و13 وافدة) ليرتفع العدد الإجمالي للإصابات الى 423433. كذلك تم تسجيل 52 حالة وفاة جديدة، ليصبح العدد الإجمالي للوفيات 5474 حالة منذ انتشار الوباء في شباط 2020.