كما توقعت “نداء الوطن”، أتى لقاء قصر بعبدا أمس بمثابة “الموقعة” الرئاسية على أرض حرب “المئة يوم” التي يخوضها الرئيس سعد الحريري منذ لحظة تقديم تشكيلته إلى “ثنائي” الرئاسة الأولى، رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، اللذين لم يوفرا في المقابل وسيلة تعطيل وضغط واستفزاز لـ”تهشيل” الحريري ودفعه إما إلى الرضوخ لشرط “الثلث المعطل” أو الاعتذار والتنحي جانباً.
لكن يبقى أنّ ما جرى الاثنين، لا يمكن فصله “عضوياً” عما جرى الخميس… حين أعطى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله “الضوء الأخضر” لتنفيذ “7 أيار” عوني على حكومة الاختصاصيين، وسرعان ما تلقف باسيل “رسالة” حارة حريك، فأعد العدة الإنقلابية اللازمة انطلاقاً من تغريدته التي أرادها بمثابة رسالة جوابية “مشفّرة” إلى نصرالله تقول له: “خرطوشة فردك يا سيّد”، وفق تعبير مصادر سياسية، رأت أنّ باسيل دشّن “أمر العمليات” هذا بإرسال “مسيّرة” ليل الأحد إلى بيت الوسط، حملت “مغلفاً مفخخاً، إيذاناً بتنفيذ انقلاب حكومي موصوف، تكليفاً وتأليفاً” عصر الأمس.
وكشفت المصادر أن “المغلّف” العوني هدف بالدرجة الأولى إلى استفزاز الحريري ودفعه إلى العدول عن زيارة قصر بعبدا الاثنين، ففي الشكل تم إرساله “بالبريد الرئاسي” وليس عبر موفد رئاسي ولا وسيط حكومي، وهو مذيّل بتوقيع رئيس الجمهورية تحت عنوان يتقصّد “تحقير” الرئيس المكلف عبر مخاطبته بـ”حضرة رئيس الوزراء السابق” مجرداً إياه من لقب “دولة رئيس الحكومة المكلف”، أما في المضمون فجاء “النموذج” الذي أرسله عون لتشكيلة الحكومة “ليمعن في إهانة الرئيس المكلف أكثر” لا سيما وأنه حمل طابعاً “إملائياً” توجه من خلاله عون إلى الحريري بالقول: “نموذج من المستحسن تعبئته”!
وإذ حافظ الحريري على رباطة جأشه وتعالى على “الأسلوب الاستفزازي الرخيص الذي يتوسله باسيل في سبيل تعطيل التأليف”، اعتبرت المصادر أنّ إصرار الرئيس المكلف على زيارة بعبدا “أتى من باب إحباط المخطط الهادف إلى دفعه إلى الاعتكاف عن الزيارة وتصويره على أنه يرفض التشاور وفق الأصول الدستورية مع رئيس الجمهورية، ومن جهة ثانية لرد المغلف إلى عون باعتباره “كأنه لم يكن” إفساحاً في المجال أمام مشاورات الفرصة الأخيرة لتشكيل حكومة اختصاصيين من دون ثلث معطل ولا تمثيل حزبي مباشر فيها، فكان ما كان على قاعدة “المكتوب يُقرأ من عنوانه” لناحية إصرار رئيس الجمهورية على الاستحواذ على الثلث المعطل في أي تشكيلة مؤلفة من 18 أو 20 أو 22 وزيراً، حسبما نصّ النموذج العوني للتشكيلة، على أن تشمل حصته وحصة تياره، وزارتي العدل والداخلية بالإضافة إلى وضع اليد من جديد على حقيبة الطاقة”.
وعلى الأثر، قرر الحريري “لعب أوراقه على المكشوف” لأنّ الرئيس المكلف “مش شغلتو يعبي أوراق لحدا” ولا رئيس الجمهورية “شغلتو يشكل الحكومة” وفق أحكام الدستور، فبادر إلى مكاشفة الرأي العام بالتشكيلة الوزارية التي كان قد قدمها إلى رئيس الجمهورية “منذ أكثر من مئة يوم”، ليتبيّن أنها تضمّ مروحة من الوزراء الاختصاصيين من ذوي الخبرة والكفاءة المهنية والعلمية، لكنها اصطدمت بجواب واحد من رئيس الجمهورية: “الثلث المعطل”، كما قال الحريري. وما إن غادر قصر بعبدا، حتى اندلعت “حرب الوثائق” بين الرئاستين الأولى والثالثة، وساد “التخبط والتراشق” بين وثيقة وأخرى، لا سيما وأنّ محاولة تسريب قصر بعبدا “النموذج العوني” بأعمدته الأربعة خالياً من خانة تحديد حصة الأحزاب في التشكيلة الوزارية، سرعان ما دحضه المكتب الإعلامي للرئيس المكلف عبر توزيع “النموذج الأصلي” الذي أوفده إليه عون مساء الأحد، والذي يظهر بوضوح تحديد عون حصة كل حزب وتيار سياسي في الحكومة العتيدة، بشكل يتضح من خلاله أنه خصّص لنفسه ولتياره “ثلثاً معطلاً” صريحاً فيها.
وأمام المسار “الجهنمي” الذي بلغه البلد، توالت ردود الفعل الدولية للإعراب عن القلق على مصير لبنان، فقال وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بعد اجتماع بروكسل: “أتيحت لنا الفرصة لنقول لفرنسا إننا نشاركها مخاوفها (…) لبنان ينهار ووضعه مأسوي، وإذا لم تكن الضغوط السياسية كافية، فيتعيّن علينا التفكير في ما يتوجب القيام به وقد طلبنا من قسم العمل الخارجي وضع تقرير عن الاحتمالات الأخرى”، في إشارة غير مباشرة إلى احتمال درس فرض عقوبات على المسؤولين اللبنانيين المعرقلين.
وتوازياً، أعربت الخارجية الأميركية عن قلقها حيال التطورات في لبنان، ودعت “القادة السياسيين إلى وضع انتماءاتهم الحزبية جانباً وتشكيل حكومة تطبق بشكل سريع إصلاحات حاسمة تعيد الثقة وتنقذ اقتصاد البلاد”. في حين كان لمساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، موقف لافت عبر قناة “الحرة” قال فيه: “المشكلة الحقيقية أن الفساد يطال كل جزء من جوانب الحكم في لبنان، لدرجة أنه يتعذر تشكيل حكومة الآن، لأنه يبدو أن جبران باسيل ورئيس الجمهورية يتمسكان بثلث معطل في الحكومة الجديدة بسبب تطلعات باسيل الشخصية لضمان كونه الرئيس المقبل”.