كلّ العالم الخارجي الصديق والشقيق يلحق بالقابضين على السلطة الى عقر دارهم، ناصحاً إيّاهم بأن يلحقوا هم ببلدهم ويُمسكوا به قبل أن تُودي به أزمته الحارقة، وتزيله عن خريطة الوجود كدولة ووطن. ومع الحراك المتجدّد في اتّجاه هذا البلد المنكوب، تأكّدت مقولة أنّ كلّ أصدقاء لبنان وأشقائه عيونُهم على لبنان وقلوبُهم معه، وحريصون على استقراره ودخوله واحة الانفراج فيما القابضون على السلطة في هذا البلد عيونهم على مصالحهم، وقلوبهم على الحجر، ويسوقونه بأنانيّاتهم إلى الإنفجار والفوضى الشاملة التي لا قيامة للبنان منها إذا سقط فيها.
جوهر هذا الحراك، أو بمعنى أدق، الإندفاعة الخارجية في اتجاه لبنان في هذه الفترة، والتي تَصدّرها حضور وزير الخارجية المصرية سامح شكري الى بيروت، هو توجيه رسالة مباشرة الى القابضين على السلطة خلاصتها انّ لبنان بوضعه الراهن لم يعد يملك ترف تضييع الوقت والاستهتار بما حل به وما قد يحل به، وبالتالي فإنّ فرصة الانقاذ والانفراج لم تنعدم بعد، فاستفيدوا من هذه الفرصة واستغلّوها وتشاركوا في ورشة الانقاذ.
طفح الكيل
واللافت في موازاة تلك الرسالة، كانت الرسالة الفرنسية البالغة الدلالة والحدة التي وجّهتها باريس وعكست فيه ما بَدا انّ الكيل قد طفح بالنسبة اليها من تعامل القادة اللبنانيين مع المبادرة الفرنسية وتشكيل الحكومة وفقاً لمندرجاتها، وانها قررت الانتقال من اللغة الهادئة التي اعتمدتها منذ اطلاق المبادرة في آب الماضي، الى لغة الضغط والعقوبات على من تعتبرهم معطّلي الحل في لبنان.
الرسالة الفرنسية، جاءت عبر مواقف حادة في نبرتها، عبّر عنها وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان بهجوم شنّه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان على القوى السياسية اللبنانية بسبب عدم إنهاء الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان، حيث قال امام الجمعية الوطنية الفرنسية: «القوى السياسية اللبنانية عمياء ولا تتحرك لإنقاذ البلاد على الرغم من التعهدات التي تم اتخاذها وهذا يعدّ جريمة».
وإذ اكد لودريان انّ هذه القوى ترفض التوافق، قال: الأزمة في لبنان ليست ناتجة عن كارثة طبيعية بل عن مسؤولين سياسيين معروفين، القوى السياسية تتعنّت عن عمد ولا تسعى للخروج من الأزمة، هذا التعنت يأتي من قبل أطراف سياسية محددة تضع مطالب تعجيزية خارج الزمن».
وكشف «انّ باريس سوف تتخذ تدابير محددة بحق الذين فضلوا مصالحهم الشخصية على مصلحة البلاد، والأيام المقبلة ستكون مصيرية، في حال لم تتخذ هذه الأطراف قرارات ملائمة، سوف نقوم من جهتنا بواجبنا».
لا دخان أبيض
كل ما استجد، بدءاً بحضور الوزير المصري اضافة الى التصعيد الفرنسي في وجه المعطلين، يلقي كرة نزع الفتيل المشتعل سياسيا وماليا ونقديا واجتماعيا ومعيشيا مرة جديدة، وربما اخيرة، في أيدي كل المعنيين بملف تأليف الحكومة، التي بات من المسلّم به أنّ تشكيلها هو الخطوة الاولى في رحلة الألف ميل نحو أخذ لبنان برّ الامان.
الوزير المصري نقل ما يمكن وصفها برسالة حثّ على التأليف، واكدت مصادر سياسية عالمة بخلفيات زيارته، انّها زيارة محصّنة بغطاء عربي شامل وداعم لها، وليست منعزلة عن الموقف الفرنسي وخريطة الطريق التي حددتها المبادرة الفرنسية للخروج من الازمة، وفي طليعة مندرجاتها المبادرة سريعاً الى تشكيل حكومة مهمّة متوازنة تباشر فوراً في الخطوات والاجراءات الاصلاحية التي ينادي بها المجتمع الدولي، وتلبّي بالتالي طموحات الشعب اللبناني في الانتقال ببلدهم نحو واقع مغاير للواقع الذي ساد على مدى السنوات الماضية وأفسد البلد وأشعل فتيل الازمة. الّا أنّ العلامة النافرة التي احاطت بتلك الرسالة، هي أنّها سقطت على واقع غارق بالوحل السياسي، وصدمها «المعطلون» بالموانع والذرائع والمعايير ذاتها
التي عطلت تشكيل الحكومة، وبالإصرار على التنصّل من المسؤوليّة وقذف كرة التعطيل الى ملعب الآخرين.
لحكومة فوراً
وما تكشّف من سلسلة اللقاءات التي أجراها الوزير المصري، اكد انّ مفتاح الحلّ للازمة الراهنة ما زال ضائعا، وان الحكومة ما زالت متأرجحة بين تناقضات جذرية في النظرة اليها.
وقالت مصادر مواكبة للزيارة لـ«الجمهورية» انّ الوزير شكري عكسَ في محادثاته:
– تأكيد وقوف مصر الكامل مع لبنان والحرص على استقراره على كل المستويات، وهذا موقف تتشارَك فيه مع كل الاسرة العربية من دون استثناء.
– القلق على لبنان، والخشية الكبرى من بلوغه نقطة الخطر الشديد على كل المستويات، اذا ما استمر الحال فيه على ما هو عليه من فراغ حكومي وتعقيدات سياسية.
– التأكيد على كل القوى السياسية إعلاء مصلحة لبنان فوق كل الاعتبارات السياسية والحزبية، وخصوصاً في هذا الظرف الصعب الذي يمر فيه لبنان مع تفاقم الازمة الاقتصادية فيه الى حدود شديدة الخطوره، وباتت المعاناة منها يُعَبّر عنها لدى مختلف فئات الشعب اللبناني.
– التأكيد على القوى السياسية الشروع فوراً، وبمعزل عن اي اعتبارات او خلافات سياسية، في تأليف حكومة جديدة متوازنة تعزز الاستقرار
الداخلي، وتطلق ورشة إصلاحات جوهرية في لبنان (كما هي محددة في المبادرة الفرنسية)، بما يُعيد ربط لبنان بالمجتمع الدولي مجدداً بحبل من الثقة، ويفتح باب تدفق المساعدات الدولية إليه لمساعدته في النهوض من هذه الأزمة التي أدخلت شعب لبنان في أعلى درجات البؤس.
مواقف الاطراف
وبحسب المصادر نفسها، فإنّ الوزير شكري وقف في لقاءاته على خليط من المواقف، فمع قوى المعارضة سمع شكوى صريحة من كل الطبقة الحاكمة، وفي بكركي كان الموقف متطابقاً مع ما طرحه البطريرك الماروني مار بشارة الراعي لناحية التعجيل بحكومة إنقاذية سريعا. وفي بيت الوسط لمسَ مرونة جدية وبالغة، ولم يلمس مطالب تعجيزية بل لمسَ استعدادا للسير الفوري بحكومة متوازنة لا ثلث معطلاً فيها لأي طرف.
وقالت مصادر بيت الوسط لـ«الجمهورية» انّ اللقاء بين الحريري وشكري كان ممتازا ومريحا جدا، وكان الوزير متفهّما للعرض الذي قدمه الرئيس الحريري في ما خَص الوضع الحكومي، والذي اكد فيه الرغبة الشديدة في تأليف حكومة في اسرع وقت ممكن، من اختصاصيين لا سياسيين ووفق مندرجات المبادرة الفرنسية ولا ثلث معطلا فيها لأيّ طرف.
ومن بيت الوسط اعلن شكري أنّ «مصر حريصة على أمن لبنان واستقراره، وهذا يقتضي العمل على إنهاء حالة الجمود الراهنة كما أنّها حريصة على كل جهد يُبذل لخير لبنان والمنطقة واستعادَتِه لمكانته».
وقال إننا «نتطلّع للحوار مع الجميع للخروج من هذه الأزمة بالاعتماد على الأرضية القانونية المتعلقة بالدستور واتفاق الطائف، ونتمنّى للبنان التوفيق وعلى الحكومة أن تكون خارج التجاذب».
بري
اما في عين التينة فكان اللقاء اكثر من مريح مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري والتطابق كان كاملا وجليا في المواقف، ولا سيما لناحية الدخول في مرحلة الانقاذ للبنان عبر تشكيل حكومة منسجمة (لا ثلث معطلا فيها او متحكّماً، لأي فريق سياسي)، اي حكومة بحجم المرحلة ويشترك فيها الجميع في هذه العملية.
وكان موقف لافت في عين التينة للوزير شكري، اكد فيه على اهمية العمل بكل اجتهاد وبكل سرعة لتشكيل حكومة اختصاصيين، وقال انه نقل الى الرئيس بري تثمين مصر الكبير لجهود دولته ومبادراته التي يطلقها للعمل من اجل الخروج من هذه الأزمة في إطار الحفاظ على الارضية الراسخة السياسية والقانونية المتمثلة في تطبيق الدستور اللبناني واتفاق الطائف واستعداد مصر لتقديم كل ما في وسعها لمعاونة الاشقاء لتجاوز هذه الازمة والانتقال الى مرحلة يستعيد فيها لبنان عافيته الكاملة، وإننا نرى أهمية للاسراع بذلك. واكد على انّ استقرار لبنان هو حيوي بالنسبة للمنطقة».
في بعبدا
الّا ان اللقاء بين شكري ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وعلى ما تؤكد المصادر، لم يعكس اي اشارات مشجعة يمكن البناء عليها للحديث عن ايجابيات. فرئيس الجمهورية، وبحسب المصادر، عرض من وجهة نظره ما يحيط بملف تأليف الحكومة، مُلقياً باللائمة في هذا السياق في اتجاه الرئيس المكلف، وعدم تعاطيه بجدية في هذه المسألة، وصولاً الى السعي الدائم الى تجاوز الاصول الدستورية والمعايير الاساسية في عملية تشكيل الحكومة، وفرض معايير مناقضة لها.
وقد انعكست الاجواء السلبية للقاء في ما اعلنه الوزير شكري على أثره، حيث اعرب عن أسفه «من الانسداد السياسي الذي لا يزال موجوداً بعد مرور 8 أشهر على تفجير مرفأ بيروت».
واشار الى «أنّ السياسيين اللبنانيين يتخبطون لتشكيل الحكومة، مؤكدا أن مصر ستستمر ببذل كل الجهود للتواصل مع كل الجهات للخروج من الأزمة». وفي المقابل، وزّع القصر الجمهوري ما أبلغه الرئيس عون للوزير شكري، حيث اعرب عن «تقديره وامتنانه للدور الذي تقوم به مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي لمساعدة لبنان في مواجهة الازمات المختلفة التي يعانيها، لا سيما الازمة الحكومية، متمنياً ان تثمر هذه الجهود نتائج إيجابية، لا سيما اذا ما توافرت إرادة حقيقية للخروج من هذه الازمة، من خلال اعتماد القواعد الدستورية والميثاقية التي يقوم عليها النظام اللبناني وبالتعاون مع جميع الأطراف اللبنانيين من دون إقصاء او تمييز». كذلك شدد على «دقة المهمات التي ستلقى على عاتق الحكومة الجديدة، لا سيما في مجال الإصلاحات الضرورية التي يلتقي اللبنانيون والمجتمع الدولي في المناداة بها والعمل على تحقيقها، وفي مقدمها التدقيق المالي الجنائي لمحاسبة الذين سرقوا أموال اللبنانيين والدولة على حد سواء».
باسيل
وفيما لوحظ انّ لقاءات وزير الخارجية المصرية لم تشمل أمس رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، الا ان باسيل اطلق تغريدة لافتة للانتباه في مضمونها قال فيها: «أبديتُ وما زلتُ أبدي كل التجاوب مع أي رغبة فرنسية بزيارة باريس، او بلقاء في اي مكان ومع ايٍّ كان، بلا عِقد أو حجج، ومن دون المسّ بصلاحيات رئيس الجمهورية أو التعرّض لدوره شكلاً ومضموناً. فالهَم واحد أوحد هو تنفيذ الاصلاحات بدءاً بتأليف الحكومة».
أضاف: « لكن رغم كل ذلك، ورغم قرار التيّار عدم المشاركة في الحكومة مع تقديم كل تسهيل لتشكيلها وإزالة كل العقبات امامها، ورغم تحديد أكثر من موعد وفرصة، جاء من يعطّل كل محاولة فيها أمل… سنبقى نتجاوب، ضمن الأصول، مع كلِّ مسعى خارجي أو داخلي، ولن نيأس إلى ان يبصر الحل النور».
التدقيق الجنائي
في هذا الوقت، كان لافتاً في موازاة زيارة الوزير المصري الى بيروت، وكذلك وزير الخارجية السويسري الذي زار القصر الجمهوري امس، مبادرة رئيس الجمهورية الى فتح معركة التدقيق الجنائي، معلناً في اطلالة تلفزيونية مساء امس انّ «سقوط التدقيق الجنائي يعني ضرب المبادرة الفرنسية، لأنّ من دونه لا مساعدات دولية ولن يكون مؤتمر «سيدر» ولن يكون دعم عربي وخليجي أو صندوق دولي».
إنطلق عون في كلمته من الاجتماع الذي عقد امس الاول بين ممثلين عن وزارة المال وحاكمية مصرف لبنان وشركة «الفاريز ومارسال»، من دون التوصل الى نتيجة ملموسة حيث تقرر عقد اجتماع آخر يوم الجمعة. ورأى في ذلك «مُماطلة مؤكدة، تدل على عدم وجود إرادة بإجراء التدقيق الجنائي».
واكد «انّ مسؤولية القيادات السياسية وغير السياسية كبيرة امام الله والشعب والقانون، وما كان ليحصل ما حصل لو لم توفّروا أنتم بالحد الأدنى الغطاء للمصرف المركزي والمصارف الخاصة ووزارة المال». وحمّل «المسؤولية الأساسية لمصرف لبنان»، وكذلك للمصارف، وقال: جميع الحكومات والإدارات والوزارات والمجالس والهيئات مسؤولة عن كل قرش أُهدِر عبر السنوات، وجميعها يجب ان يشملها التدقيق الجنائي. وتوجّه عون الى ما سماها «الدول التي تدّعي التضامن مع الشعب اللبناني»، وقال: «تطالبون بالشفافية في المصرف المركزي وسائر القطاع المصرفي وبالإصلاحات المالية والنقدية، فساعدونا على كشف عمليات تحويل أموالٍ أَخذت بعد 17 تشرين الأول 2019 طابع التهريب المالي. هذه الأموال هي بالعملات الأجنبية، وتم تحويلها من لبنان الى مصارف معروفة في العالم. عمليات كهذه لا يمكن إخفاؤها؛ واذا توفر القرار فنحن قادرون على معرفة مَن حوّل أموال اللبنانيين الى الخارج، وقادرون على التحقيق والتدقيق لنكشف ما اذا كانت هذه الأموال نظيفة، وكيف حصل عليها أصحابها، وهل من إمكانية لاسترجاعها. وخَلص الى دعوة الحكومة لعقد جلسة استثنائية لاتخاذ القرار المناسب لحماية ودائع الناس، وكشف أسباب الانهيار وتحديد المسؤوليات تمهيداً للمحاسبة واسترداد الحقوق.