“بعد عزّ فاقة”… هكذا أصبح واقع اللبناني رديفاً لمصطلحات الفقر والجوع والإفلاس والخراب والانهيار والعتمة تحت قبضة أكثرية 8 آذار التي ما إن أطبقت على السلطة رئاسياً وحكومياً ونيابياً، حتى جعلت عالي البلاد واطيها ولم ترحم عزيزاً ذلّ، بل أمعنت في امتهان كرامة شعب عن بكرة أبيه أضحى يتسوّل أمواله أمام المصارف، ووقوده أمام المحطات، وقوته أمام السوبرماركات ورغيفه أمام المخابز، ولا ضير بـ”بهدلة” بالزائد أو بالناقص من المجتمعين العربي والدولي طالما على كراسي الحكم “تماسيح” لا تبالي بكل طوابير الذل ومشاهد الاقتتال الأهلي المتمدد، تارةً على غالون زيت، وطوراً على كيس حليب أو سكّر، وبالأمس على اللحم المدعوم أمام وزارة الاقتصاد.
وفود تأتي وأخرى تغادر، دول تناشد وأخرى تحذر، وكل التصاريح الجارحة والرسائل المهينة للطبقة الحاكمة لم تحرّك شعرة في رأس العهد وسلطته المتداعية، المهم أن يبقى رئيس “التيار الوطني الحر” على قيد الحياة السياسية حتى ولو كان منبوذاً عربياً ودولياً، يرفض الخارج استضافته ويأبى الزوار ضيافته، وآخرهم الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي الذي لم يجد ما يستحق عناء الطريق إلى “اللقلوق” للقاء جبران باسيل… وكما على المستوى الخارجي، يواصل الأخير مساره الانحداري على كافة المستويات الداخلية، سياسياً وحزبياً ومسيحياً، ويتهرّب من خوض غمار أي استحقاق انتخابي، مبكّراً كان أم فرعياً، سيما وأنّ أوساطاً مواكبة لملف الانتخابات الفرعية تؤكد أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون “لا يزال يهرب من منح موافقته على إجراء هذه الانتخابات” تماشياً مع مصلحة باسيل.
وفي هذا السياق، عُلم من دوائر السراي الحكومي أنّ رئاسة الجمهورية لم تردّ بعد، على الكتاب الذي أرسلته الأمانة العامة لمجلس الوزراء إلى قصر بعبدا قبل نحو أسبوعين، والذي ضمنته “موافقة استثنائية” من رئيس حكومة تصريف الأعمال على إجراء انتخابات فرعية، لملء عشرة مقاعد نيابية شغرت بالاستقالة أو الوفاة، مع تحديد 23 أيار، أو 30 أيار، أو 6 حزيران، موعداً لإجرائها.
وبما أنّ المسألة تحتاج موافقةً استثنائيةً من رئاسة الجمهورية إلى جانب موافقة مماثلة من رئاسة الحكومة، وطالما أنّ كتاب دياب تضمّن موافقته مع تأكيد جهوزية كل الوزارات المعنية لإنجاز العملية الانتخابية، بدءاً بوزارتي الداخلية والدفاع، مروراً بوزارتي الصحة والتربية، وصولاً إلى رفع وزارة المالية مشروع مرسوم نقل اعتماد من احتياطي الموازنة لتمويل الاستحقاق، فإنّ مصير هذا الملف بات معلقاً على قرار رئيس الجمهورية، على أن يتبيّن خلال الأيام المقبلة ما إذا كان سيبادر إلى التوقيع على كتاب دياب إيذاناً بإصدار مرسوم دعوة الهيئات الناخبة قبل شهر من الموعد المحدد لإجراء الانتخابات الفرعية، أم أنه سيضمّ الانتخابات الفرعية إلى الدرج نفسه الذي يحتجز فيه التشكيلات القضائية!
في الغضون، وبينما يواصل عون سياسة الهروب إلى الأمام، وحرف الأنظار عن مسؤوليته عن عرقلة ولادة حكومة المهمة الإنقاذية، عبر إثارة “شعبوية” لموضوع التدقيق الجنائي، كما وصفها رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، ضمن سياق من “البروباغندا” العونية الممنهجة “تهرباً من المسؤوليات” وفق توصيف المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب علي حسن خليل، فإنّ الصرح البطريركي في بكركي لا يزال يستقطب مزيداً من الدعم والتأييد لطروحاته الوطنية الداعية إلى التعالي عن الحسابات السياسية الضيقة في سبيل إنقاذ الكيان وأبنائه. ولفت الانتباه أمس إعلان زكي بعد لقائه البطريرك الماروني بشارة الراعي تبني جامعة الدول العربية مبدأ “الحياد” باعتباره “موقفاً يتماهى تماماً مع قرارات مجلس الجامعة العربية في ما يتعلق بموضوع النأي بالنفس عن كل الصراعات والنزاعات المحيطة”، مؤكداً أنّ طرح الراعي يحظى بدعم عربي “لأن فيه مصلحة أكيدة للبنان”.
تزامناً، وفي ضوء استمرار دوران معضلة التأليف في دائرة التعطيل والعرقلة، وبينما يستعد الفرنسيون لاتخاذ إجراءات عقابية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي ضد المعرقلين السياسيين اللبنانيين، تكثّف باريس مشاوراتها مع الإدارة الأميركية حيال الملف اللبناني وسبل الدفع دولياً باتجاه إخراج اللبنانيين من محنتهم، وبرزت في هذا الإطار إشارة المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس في بيان، إلى أنّ الوزير أنتوني بلينكن، ونظيره الفرنسي جان إيف لودريان، بحثا خلال اتصال هاتفي أمس هذا الملف، فشددا في موقف مشترك على أنه “على القادة السياسيين في لبنان تحقيق إصلاحات حقيقية تخدم مصالح الشعب”.