ما فعله وما قاله وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان الخميس والجمعة في بيروت ينطبق عليه اكثر بكثير من “قال كلمته ومشى”. الى حد بعيد شكلت الزيارة العاصفة، مع ان معظم محطاتها فرضت عليه قيود الابعاد عن الاعلام المباشر، معالم بارزة جدا في دلالاتها لجهة ما يمكن اعتباره تعديلاً في قواعد المبادرة الفرنسية ابنة الثمانية اشهر. لم يكن تطورا نافلاً او عادياً ان يمتنع لودريان بتعمد معاند ومقصود وهادف، عدم التطرق او الغوص او الحديث عن الازمة الحكومية الا من باب حصري واحد هو تقريع المسؤولين اللبنانيين، وتحميلهم تبعة عدم التزام تعهداتهم في اجتماع قصر الصنوبرمع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والذي ثبته لودريان مرجعية حصرية لتقويم معايير الحكم على القصور السياسي اللبناني.
ولعل اللافت هنا ان لودريان لم يأبه للانتقادات الحليفة من أصدقاء فرنسا العريقين، وليس الطارئين، بأنه في تعميمه توجيه الاتهامات بالإخلال بالتزامات اجتماع قصر الصنوبر وأخذ الملتزمين بجريرة معطلي الحل الذي يتجسد في تشكيل الحكومة الجديدة الموعودة، بل مضى رئيس الديبلوماسية الفرنسية في “القصف الانتقادي ” المعمم على جميع الطبقة السياسية دونما تمييز، الامر ألذي شكل احدى الثغرات الموضوعية في مواقفه. كما ان نقطة ثانية اثارت جانباً ساخناً ساخطاً بصمت لدى الحلفاء إياهم، وهي اختيار لائحة المدعوين ممن وصفوا بممثلي “القوى التغييرية ” اذ كانت من بينهم أحزاب تقليدية الى جانب جماعات من انتفاضة 17 تشرين الأول والحراك المدني فيما استبعد لودريان أي لقاء او اتصال مع قوى تقليدية مماثلة، كما لم يكن مستساغا تجاهله زيارة بكركي خصوصا. ومع ذلك لم تقلل الثغرات أهمية “التبديل” الواضح في أولويات المبادرة الفرنسية التي قال لودريان انها باقية ومستمرة على الطاولة. هذا الامر ترجم أولا في رفع لودريان بقوة لائحة الإجراءات العقابية التي باشرت فرنسا وضعها موضع التنفيذ ضد شخصيات لبنانية تتهمها بإعاقة الحل وبالفساد كهدف اول لزيارته. اما الهدف الثاني البارز أيضا فكان في تعمد لودريان عقد أطول اجتماعاته خلال الزيارة مع ممثلي “القوى التغييرية” والاستماع المطول الى رؤاهم واتجاهاتهم وحضهم بقوة لافتة على خوض الانتخابات النيابية المقبلة “في موعدها” بلوائح متضامنة ومتحالفة وموحدة مطلقاً نفير التغيير الانتخابي الديموقراطي في مواجهة الطبقة السياسية.
وإذ تشير مجمل المعطيات السياسية موضوعيا الى ان ما بعد زيارة لودريان سيبقى كما قبله على مستوى الازمة الحكومية، فان ذلك لا يخفف وطأة الاندفاع الفرنسي لترسيخ الية عقوبات للمرة الأولى حول لبنان، وهي الالية التي ستبحث مجدداً على المستوى الأوروبي الأشمل في اجتماع جديد لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسيل الاثنين المقبل.
“الحاجة الى التجديد”
وتشاؤم لودريان من امكان تحقيق اختراق في الازمة برز في كلامه في اللقاء الإعلامي المحدود الذي عقده صباح امس في قصر الصنوبر قبيل مغادرته، اذ اعتبر انه “بعد 8 أشهر من الجمود وانسداد الأفق، يبدو أن لبنان بحاجة الى تجديد حقيقي لممارساته السياسية والمؤسساتية، والمجتمع اللبناني بغناه وتنوعه حاضر لذلك، ويمكنه أن ينهل من التعدد الديموقراطي الذي يشكل قوة له”. ورأى لودريان أنه “بعد 9 أشهر من التعطيل، ثمة حاجة الى تجديد الممارسة السياسية والدستورية”، محيّياً المجتمع المدني الذي استمع الى عدد من شخصيات مجموعاته خلال زيارته.
ولفت الى ان “فرنسا ترى أن استحقاق الانتخابات النيابية المقبلة، يجب أن يكون فرصة لنقاش ديموقراطي حول مستقبل لبنان”، وحذّر من ان “أي محاولة لتأجيل الاستحقاق الديموقراطي ستواجه باجراءت مناسبة من باريس والمجتمع الدولي”.
وروى لودريان أنه أمضى يومين ونصف اليوم في لندن خلال مشاركته في مجموعة السبع، والتقى وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن ووزراء خارجية الدول السبع، و”أذكر أيضاً بأن فرنسا عضو في مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة الذي سأتولى رئاسته بعد أسابيع. من جهة أخرى، إنني ألتقي نظرائي في الاتحاد الأوروبي وأقول لهم جميعاً وأقولها أيضاً في بيروت، بأن احترام المواقيت الديموقراطية في لبنان أمر لا مفر منه، ومحاولات تأجيل الانتخابات أمر لن تقبل به المجموعة الدولية وحتماً فرنسا، وكل مرة تطرح فيها المسألة اللبنانية في الهيئات الدولية الثلاث التي ذكرت، تسأل فرنسا عن رأيها، وما قلته في هذا المجال نتشاطره جميعا”. وتناول لقاءاته مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب والرئيس المكلف موضحاً ان رسالته الحاسمة اليهم كانت بضرورة الخروج من دائرة التعطيل. واستنتج أن “اللاعبين السياسيين لم يتحملوا مسؤولياتهم ولم يعملوا بجدية، ” أنا هنا من أجل تلافي هذا النوع من الانتحار الجماعي”.
وقال: “إذا لم يتحركوا من اليوم للخروج من التعطيل، فعليهم تحمّل مسؤولية الأمر وتبعاته. ونحن لن نبقى مكتوفي اليدين، وستكون للأمر تبعات، وقد بدأنا اجراءات مشدّدة تجاه شخصيات مسؤولة عن التعطيل والفساد، وليس الأمر سوى البداية، وهناك أدوات ضغط مطروحة من ضمن الاتحاد الأوروبي وبدأنا التداول بأفكار متصلة مع شركائنا”.
انطلاق الية العقوبات
واذا كان غضب لودريان لم يفاجئ أحدا، فان باريس حرصت على إضفاء الجدية التامة على مسألة العقوبات ضد شخصيات لبنانية من خلال بيان رسمي أصدرته وزارة الخارجية الفرنسية من باريس خلال وجود الوزير في بيروت. واعلنت الناطقة الرسمية باسم الخارجية الفرنسية انياس فان دير مول “تم بالفعل اتخاذ إجراءات على الصعيد الوطني بهدف منع دخول الأراضي الفرنسية للشخصيات اللبنانية المتورطة في العرقلة السياسية والفساد. نحتفظ بالحق في اتخاذ تدابير إضافية إذا استمر التعطيل. وقد بدأنا مناقشات مع شركائنا الأوروبيين حول التدابير المتاحة للاتحاد الأوروبي لزيادة الضغط من أجل الخروج من الأزمة. فالوزير موجود حاليا في لبنان ليعبر كما قال عن رسالة حزم كبيرة للقادة السياسيين ورسالة تضامن كامل مع اللبنانيين”.
اما اللقاء الذي عقده لودريان في قصر الصنوبر تحت عنوان “القوى السياسية التغييرية” فضمّ ممثلين لتجمعات من انتفاضة 17 تشرين وحزب الكتائب وحركة الاستقلال وشارك فيه رئيس حزب الكتائب سامي الجميل والنائب المستقيل ميشال معوض والنائب المستقيل نعمة افرام. وجاء اللقاء انطلاقاً من أنّ لو دريان “رفض الإجتماع مع الأحزاب التي لم تحترم التزاماتها منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت وإطلاقه المبادرة الفرنسيّة لتأليف الحكومة”.
وابلغ لودريان المجتمعين ان فرنسا على استعداد لمساعدة الشعب وتوفير الدعم له وكل ما هو بحاجة اليه عبر المنظمات غير الحكومية، فيما دعا المعارضة الى توحيد صفوفها مع الحراك وعودة التحرك لتحقيق المطالب. واذا لم تشكل الحكومة خلال ايام فان فرنسا ستبدأ مطلع الاسبوع المقبل بسلسلة تدابير واجراءات عقابية بصورة تصاعدية في حق عدد من المسؤولين والسياسيين اللبنانيين.
كما نقل مشاركون في اللقاء عنه تشديده على “أولويّة عدم المسّ بتوقيت الإنتخابات النيابيّة المقبلة، وتحذيره من مغبّة تطييرها، وأنّه سأل الحاضرين عن المسار الذي سيتّخذونه بغية إحداث التغيير المطلوب لتغيير السلطة الحاليّة”.