كما كان متوقعاً، أخرج رئيس المجلس النيابي نبيه بري من كمِّه أرنب التبريد، لصبّ المياه الباردة على الأجواء الساخنة التي طوّقت جلسة تلاوة الرسالة الرئاسية قبل انعقادها، ورحّل النقاش حولها الى اليوم.
بهذا الترحيل، وإن كان لأربع وعشرين ساعة، أراد رئيس المجلس كما هو واضح، الاستفادة من عامل الوقت حتى ولو كان قصيراً، لتمرير قطوع الرسالة بأقل الارتدادات والخسائر، ومنح فرصة اضافية للمساعي الرامية الى سحب فتيل التشنج والاحتقان بين الطرفين المعنيَّين بهذه الرسالة، اي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري والفريق السياسي لكل منهما، لعلها تنجح في إطفاء حريق السجال قبل اشتعاله بينهما.
وكانت جلسة تلاوة الرسالة الرئاسية قد انعقدت بعد ظهر امس في قصر الاونيسكو برئاسة الرئيس بري، وبرز في الجلسة حضور الرئيس المكلّف سعد الحريري، الذي اشاعت اوساطه انّه حضّر رداً مفصّلاً على رسالة رئيس الجمهورية، وكذلك حضور رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الذي عكس نواب من «التيار» الى تجهيزه كلمة نارية. ولفت انتباه الحاضرين انّ الحريري وباسيل لم يتبادلا التحية، فيما عُقد لقاء جانبي بين الرئيسين بري والحريري.
انتهت الجلسة سريعاً، واقتصرت وقائعها على تلاوة رسالة رئيس الجمهورية، حيث عمد رئيس المجلس بعد التلاوة الى رفع الجلسة وتأجيلها الى الثانية بعد ظهر اليوم، ولم يستجب الى مطالبات العديد من النواب ببدء النقاش حول الرسالة في جلسة الامس.
وعكست مواقف النواب منحى تبريدياً، حيث قال المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل، انّ «اتصالات التهدئة لم تفشل»، مشيرا الى انّ مجلس النواب سيصدر في ختام جلسة النقاش موقفاً حيال هذا الامر، مستبعداً صدور اي توصية او قرار في هذا الشأن.
كلمة الحريري
وبانتظار ما ستشهده جلسة اليوم النيابية، كشفت مصادر «بيت الوسط «، انّه ستكون للحريري كلمة تشرّح رسالة الرئيس عون بالتفصيل وتكشف الكثير مما لم يُنشر من قبل.
ووصفت المصادر كلمة الحريري بأنّها ستكون شاملة، تحيط بالتطورات كافة وتتحدث عن الكثير من الحقائق التي تجاهلتها الرسالة الرئاسية والوقائع التي يصرّ البعض على تجاهلها او نفيها.
لا غداء ولا عشاء
الى ذلك، وتعليقاً على الروايات التي تحدثت عن مشاريع عشاء او غداء بين الحريري وباسيل، غرّد المستشار الاعلامي للرئيس سعد الحريري حسين الوجه فقال: «ما يتم تداوله من اخبار تتعلق بالرئيس سعد الحريري هي شائعات كاذبة ولا تمت للحقيقة بأي صلة».
بعبدا تنتظر
وفي الوقت الذي تابع فيه رئيس الجمهورية مجموعة الاتصالات التي سبقت وتلت جلسة تلاوة الرسالة التي وجّهها الى المجلس النيابي، قالت مصادر مطلعة على اجواء بعبدا، انّه ينتظر جلسة اليوم لمعرفة الاتجاهات التي ستسلكها الامور، وللتثبت من إمكان ان تؤدي الرسالة غايتها، بعيداً من مسلسل الملاحظات والتعليقات التي لم تقارب الأزمة بمظاهرها المختلفة وتأثيراتها السلبية على الوضع الداخلي وموقع لبنان في المنطقة.
الجمر تحت الرماد
الى ذلك، تبقى جلسة اليوم محل ترقب عام لمجرياتها، ومضمون النقاشات التي سيتمّ تبادلها بين نواب عون والحريري، وتحاط بمخاوف جدّية من ان ينحدر النقاش الى سجال وربما اكثر من ذلك، بما لا يبقي هذا السجال محصوراً ضمن الرقعة البرلمانية، بل يُخشى ان يتمدّد الى الشارع بتوترات تلقي على المشهد الداخلي جمرات حارقة سياسية وطائفية.
وما يعزز تلك المخاوف، هو انّ هذا الترحيل قام على ارض ساخنة، ذلك انّ الجمر ما زال تحت رماد العلاقة المتفجّرة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف ومن خلفهما تيار «المستقبل» و»التيار الوطني الحر»، ما يُبقي الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها. ويشي ذلك بأنّ اتصالات التبريد ليست سهلة امام مستوى التوتر العالي والمشاعر المحتقنة سياسياً وعلى المستوى الشخصي بين الطرفين.
اولويات
وبحسب معلومات «الجمهورية» من مصادر موثوقة، فإنّ رئيس المجلس تحرّك منذ تسلّمه الرسالة الرئاسية ضمن اولويتين، الأولى، الحؤول دون نقل المشكلة الى مجلس النواب، الذي مارس الدور المطلوب منه كاملاً سواء في استشارات التكليف التي اجراها رئيس الجمهورية، وكذلك في استشارات التأليف التي اجراها الرئيس المكلّف مع النواب. والثانية، إخماد نار الاحتقان المتورّم بين شريكي التأليف، وتجنيب البلد اي تصدّعات او إرباكات اضافية، وتفكيك اي عبوة سياسية ناسفة للاستقرار الداخلي. وهما اولويتان تضافان الى اولوية دائمة لديه، وهي الأهم، وخلاصتها إشعار كل الاطراف بأنّ لبنان يُحتضر ويوشك ان يغرق بالكامل، وآن الأوان للتخلّي عن كل الشروط من هنا وهناك، والذهاب فوراً الى تشكيل حكومة وفق مندرجات المبادرة الفرنسية من اختصاصيين من غير الحزبيين ولا ثلث معطلاً فيها لأي طرف.
وتشير المعلومات، انّ حركة الاتصالات التي كثّفها الرئيس بري في الساعات السابقة لانعقاد جلسة الامس، وتوزّعت في مختلف الاتجاهات السياسية والنيابية لإخراج جلسة هادئة ومضبوطة الى الحدّ الاعلى، لقيت تجاوباً من غالبية الكتل النيابية، التي قرّرت ان تنأى بنفسها عن اي سجال اشتباكي يمكن ان يندلع بين «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل»، وخصوصاً في ظلّ توجّه أكيد لدى «التيار الوطني» في أن ينبري في موقع التبرير والدفاع عن الرسالة الرئاسية، في مقابل توجّه معلن لدى «تيار المستقبل» بعدم تمرير رسالة عون ومضمونها الاتهامي المباشر للرئيس المكلّف بتعطيل تشكيل الحكومة، وبالتالي مواجهتها بمضبطة اتهامية شاملة كل التفاصيل التعطيلية التي اقدم عليها رئيس الجمهورية ومعه النائب جبران باسيل.
24 ساعة حاسمة
تشي تلك الصورة، انّ الكتل النيابية قد قرّرت ان تبقى على الحياد وانكفأت عن المشاركة مع عون والحريري في الصراع المستمر بينهما منذ تكليف الحريري تشكيل الحكومة، ما يعني انّ الطرفين، وتياريهما السياسيَّين، وحدهما في ميدان اشتباك، يُجمع مختلف القراءات السياسية على ان لا طائل منه سوى اضافة المزيد من التأزّم والتوتر على المشهد السياسي المعتلّ اصلاً بأزمة خانقة.
وفي هذا المجال، تؤكّد مصادر مجلسية مسؤولة لـ»الجمهورية»، انّ الرهان يبقى على فرصة الـ«24 ساعة» الفاصلة عن موعد مناقشة الرسالة الرئاسية في الجزء الثاني من الجلسة المحدّدة في الثانية بعد ظهر اليوم، حيث يقود رئيس المجلس خلال هذه الفرصة ما تُسمّى اتصالات الفرصة الاخيرة للتبريد، وسط اصراره على ضبط ايقاع النقاش بين النقيضين في الاتجاه الذي يعبّر فيه كل طرف عن موقفه، ويحول في الوقت نفسه دون انفلاته الى ما لا تُحمد عقباه. وهو الامر الذي يعني إن انفلت، فتح البلد على توتر قد لا يكون في الإمكان احتواؤه، يُضاف الى الأزمة القاتلة التي تقود لبنان نحو الدمار الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي الشامل.
على انّ الخلاصة الاساس التي يُعمل في اتجاه بلوغها في نهاية جلسة اليوم، كما تشير المصادر، هي ردّ المجلس النيابي الكرة الى ملعب الرئيسين عون والحريري، والتأكيد عليهما عدم الاستمرار في اهدار الوقت، والارتفاع الى مستوى المسؤولية الوطنية التي تمليها حال البلد، والانتقال من موقع التصادم وآثاره السلبية على البلد، الى التفاهم على تشكيل حكومة تباشر ما هو مطلوب منها على طريق اخراج البلد من ازمته.
نصائح صديقة
وبحسب معلومات «الجمهورية»، فإنّ الجهود التبريدية التي يبذلها رئيس المجلس، تلاقت مع «نصائح صديقة» عاجلة الى القادة السياسيين، وعلى وجه الخصوص الى المعنيين بالملف الحكومي، بالحفاظ على الاستقرار في لبنان.
وفي هذا السياق، قال مصدر ديبلوماسي عربي لـ«الجمهورية»: «انّ مصلحة الاشقاء في لبنان اولاً واخيراً تكمن في التفاهم بصورة فورية وعاجلة على تشكيل حكومة، وفي عدم الدخول في توترات تهدّد امن واستقرار لبنان، وتزيد من معاناة الشعب اللبناني».
مصر: مبادرة بري
وفيما أدرج مواكبون لحركة الاتصالات زيارة السفير المصري في لبنان ياسر علوي الى عين التينة امس، في السياق التبريدي للواقع المتأزم، علمت «الجمهورية» انّ الاتصالات الديبلوماسية شملت «بيت الوسط»، واكّدت على اعتماد خيار التهدئة، وتزامنت مع اتصالات بين عين التينة و»بيت الوسط»، في وقت كان التواصل مفتوحاً لهذه الغاية بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر».
على انّ اللافت في هذا السياق، ما عكسه السفير علوي من عين التينة، لناحية الدخول المصري المتجدّد كحاضن لمبادرة الحل التي طرحها الرئيس بري، حيث شدّد السفير المصري على انّ هذه المبادرة تشكّل السبيل المتاح والامثل لمعالجة الازمة. وقال: «كلنا ثقة أنّ لبنان سيخرج من هذه الازمة و ستتشكّل الحكومة وفقاً للاصول الدستورية، بطريقة تسمح ان يكون هناك طرف محاور للمجتمع العربي والدولي كي يُستأنف الدعم لهذا البلد للوصول الى المستقبل الذي يليق به، والذي يستحقه هذا البلد الراسخ الذي أسهم في الحضارة العربية. فهو لا يستحق ان يُترك انما يستحق الوقوف الى جانبه».
اضاف علوي: «نحن نجدّد تأييدنا للمبادرة التي تقدّم بها الرئيس بري، والتي أيّدها وزير خارجية جمهورية مصر العربية سامح شكري في زيارته الاخيرة الى لبنان. وأنا هنا اليوم لأجدّد تأييدنا لهذه المبادرة لحل الازمة الحكومية. ونتمنى ان تتشكّل وفقها الحكومة في أقرب وقت ممكن، لكي يتسنى العمل الفوري للمهمة الإنقاذيه بكل الدعم العربي. وقد أكّدت لدولة الرئيس على تجديد دعم مصر المستمر لجهوده تشكيل هذه الحكومة وفقاً للاصول الدستورية، وبما يحفظ الاستقرار لهذا البلد ويجنّبه أي منزلقات غير دستورية أو أي مساس باستقراره».
لا مستقبل للبنان!
وفي السياق نفسه، كشفت مصادر نيابية في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب لـ«الجمهورية»، انّها تبلّغت من ديبلوماسيين غربيين قلقاً متزايداً حيال الوضع في لبنان وخشية بالغة من تردّي الاوضاع اكثر فيه.
ونقلت عن احد السفراء قوله: «نحن حزينون على لبنان، هذا هو الشعور العام لدى كل اصدقاء لبنان في دول الاتحاد الاوروبي».
اضاف: «لبنان، كما نرى وترون بات على منعطف خطير جداً، قلنا لكم ذلك مرات عديدة في السابق، ونعود ونكرّر الآن ونقول، انتم تتجهون بسرعة الى احتمالات صعبة ومؤلمة للشعب اللبناني. هل تعلمون الى اي مستوى انحدر تصنيف لبنان؟».
ولفتت المصادر، الى انّ السفير المذكور عكس الغضب الفرنسي وسائر دول الاتحاد الاوروبي ممن سماّهم « القادة غير الموثوقين»، في اشارة مباشرة الى الممسكين بزمام الملف الحكومي، حيث قال: «لسنا نتفهم هذا التعطيل وتقاذف المسؤولية حياله (بين عون والحريري)، وعدم الاستجابة لكل النصائح والتمنيات عليهم بتجاوز حزبياتهم والتفاعل ايجاباً مع مبادرات الحل، وآخرها ما اكّدت عليه بالامس، مجموعة الدعم الدولية للبنان».
ونقلت المصادر في لجنة الشؤون الخارجية، انّ سفير الدولة الاوروبية الكبرى انتهى في كلامه الى خلاصة شديدة التشاؤم والخطورة، حيث قال: «لبنان مع الاسف ينهار امام اعين قادته، ولقد بتنا على يقين من انّ ثمة قراراً واضحاً لدى هؤلاء القادة بإبقاء الوضع على ما هو عليه من فراغ ، فعدم تشكيل حكومة يعجّل بالانهيار، وهذا معناه انّ لبنان لن يكون بخير، واكثر من ذلك، نحن ننقل اليكم خوفنا من الّا يكون هناك مستقبل للبنان».
تحذيرات مالية
هذه الصورة السوداوية تتقاطع، مع تحذيرات وصفت بالاكثر من جدّية، تلقتها مراجع اقتصادية من مسؤولين كبار في المؤسسات المالية الدولية، خلاصتها ان لا سبيل امام لبنان سوى تنظيم واقعه السياسي، والانتقال فوراً الى بناء قاعدة اصلاحية يرتكز عليها في المفاوضات التي ينبغي ان تبدأ بصورة عاجلة بينه وبين المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي.
وبحسب ما تبلّغت تلك المراجع، فإنّ المؤسسات المالية الدولية باتت تصنّف لبنان في مرتبة ما دون الصفر بدرجات عميقة جداً مالياً واقتصادياً، وهذا يعني انّ انهياره حتمي ولن يطول الوقت لذلك، في غياب حكومة تسارع الى اتخاذ خطوات وقرارات نوعية تحول دون هذا الانهيار.
هل ستبقى الرواتب؟
وبناءً على هذه الصورة السوداوية التي رسمتها المراجع المالية الدولية، دقت مصادر اقتصادية مسؤولة، ناقوس الخطر عبر «الجمهورية» وقالت: «القطاع المصرفي انهار، والمؤسسات الخاصة صارت مشلولة او مقفلة في غالبيتها، والموظفون والعاملون صاروا في الشارع، والدولة بلا حكومة ولا قرار، وفي حال اهتراء في كل قطاعاتها، والآتي اعظم مع ليرة فقدت قيمتها نهائياً، وخزينة فارغة قد تصل في وقت ليس بعيداً الى وضع تصبح فيه عاجزة تماماً عن دفع رواتب الموظفين في القطاع العام».