أما وقد تحول ملف ازمة تشكيل الحكومة ملهاة مملة ورتيبة وباعثة على مزيد من اليأس والقنوط من ساسة ومسؤولين وحكام لا تصل الى مسامعهم على ما يبدو مجريات الازمات الحياتية والاجتماعية والمالية والخدماتية المتدحرجة يوماً بعد يوم، فإن السؤال المثير للقلق والخوف المتعاظمين الذي فرض نفسه امس، ماذا يعني دقّ مصرف لبنان ناقوس الخطر المتقدم جداً والمتوغل نحو تجاوز الخطوط الحمر حيال المس باحتياطات المصارف الإلزامية لديه ؟
الحال أن أحاديث الازمة الحكومية وتكهناتها بدت بمثابة ثرثرة فارغة امام ما يمكن اعتباره بداية الانفجار الأخطر للازمة الصحية والدوائية والطبية المتداخلة والتي سرعان ما انكشف معها توغل الواقع المالي للدولة نحو الحقبة الأشد خطورة التي تنذر ببدء المس واستنفاد الاحتياطي الإلزامي في المصرف المركزي.
ذلك انه وسط الاعتمال السلبي الشديد لازمة الدواء والتي بدأت تتسبب بصدام بين وزارة الصحة العامة ومصرف لبنان، “فجّر” مصرف لبنان امس قنبلته مطلقاً الإنذار الخطير حيال واقع الاحتياط الإلزامي. وإذ قدم جردة حساب عن المبالغ التي تم تحويلها الى المصارف لحساب شركات استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية وحليب الرضع والمواد الأولية للصناعة الدوائية منذ بدء العمل بآلية الموافقة المسبقة ليصبح اجمالي الفواتير يساوي 1310 ملايين دولار، اعلن “ان الكلفة الاجمالية، المطلوب من مصرف لبنان تأمينها للمصارف نتيجة سياسة دعم استيراد هذه المواد الطبية، لا يمكن توفيرها من دون المساس بالتوظيفات الالزامية للمصارف، وهذا ما يرفضه المجلس المركزي لمصرف لبنان. بناءً عليه، يطلب مصرف لبنان من السلطات المعنية كافة ايجاد الحل المناسب لهذه المعضلة الانسانية والمالية المتفاقمة”.
وبرز شدّ الحبال في هذه الازمة البالغة الخطورة عبر تشديد وزير الصحة حمد حسن على انه أعاد التأكيد في اللقاء الأخير مع حاكم مصرف لبنان، “أن لا رفع للدعم عن الدواء”، مشددا على أن “الوزارة قامت بما وعدت به، فأنجزت بسرعة فائقة جداول بحاجات السوق من الأدوية ومكمن الشح الحاصل ورفعتها إلى حاكمية المصرف، بعد عمل استمر أسبوعاً وبشكل متواصل ليلاً ونهارا”.
ولفت الى أن “عدد الفواتير التي تم فرزها بلغ ألفا وخمسمئة لأدوية وصلت إلى لبنان قبل أن يطلب المصرف من ضمن استراتيجية جديدة يتبعها، الحصول على موافقة مسبقة لتوفير الدعم، ونحن ننتظر ليصار إلى الموافقة عليها”.
وانتقد حسن “هذا التعاطي المستغرب من المصرف المركزي مع المستوردين، في وقت أن الجانبين أصدقاء من زمان ولا دخل لوزارة الصحة العامة بالجهتين، إنما في المرحلة الراهنة من واجب الوزارة أن تتدخل”. متمنياً على حاكمية مصرف لبنان “الإيفاء بالإلتزامات ليصار إلى صرف الدواء وتحريره من المستودعات إلى الصيدليات ابتداءً من اليوم على أمل حل المعضلة في يومين، لأن صرف الأدوية إلى السوق يحتاج إلى بضع ساعات وليس أيام”.
وأضفى موقف لرئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع مزيدا من التوهج على هذا الملف اذ سارع الى التحذير من “تفاقم الأزمة المالية ساعة بعد ساعة بسبب عجز السلطة الحالية عن إخراج لبنان من هذه الأزمة الكارثية… ومحاولات المس بالاحتياط الالزامي بحجة استمرار الدعم الذي يذهب في معظمه لخدمة النظام السوري والسماسرة والمافيات والمحاسيب والازلام”. ووجه دعوة الى “كل المودعين في المصارف اللبنانية الى التقدم بطلبات حجز احتياطي على الاحتياط الإلزامي العائد للمصارف في مصرف لبنان، وذلك أمام دوائر التنفيذ المختصة حفاظا على ما تبقى من أموالهم وإنقاذا لمستقبل لبنان المالي ككل”.
مبادرة بري
اما على الصعيد السياسي، فلا تزال الأنظار تترقّب جديداً على صعيد الأطراف المعنيّة بالتأليف، فيما تؤكد أوساط سياسية مطّلعة لـ”النهار” ان مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري اخذت زخماً جديداً مع الاشارة الى أنّ بنودها لا تزال هي نفسها، لكن الجديد المعبّر عنه يكمن في أنه بعد أن كانت المبادرة متوقّفة في نقطة معينة، عادت وحصدت اهتماماً من أكثر من جهة عاملة على خطّ تذليل العقبات الحكومية، وهذا ما يعمل عليه خلال الاسبوعين الجاريَين في محاولة للخروج من المراوحة في ظلّ الاستحقاقات الآنية التي تحتاج تصرّفاً سريعاً، انطلاقاً من استحقاق رفع الدعم وصولاً إلى البطاقة التمويليّة. وتفيد المعلومات أن الأسس التي بنيت مبادرة بري على أساسها، لا تزال هي نفسها لجهة تشكيل حكومة من 24 وزيراً لا ينال فيها أي فريق الثلث المعطل، فيما لا يزال البحث عن مخرج في موضوع تسمية الوزيرين المسيحيين المتبقيين قائماً، لكن لم تتبلور أيّ صيغة حلّ في السياق حتى اللحظة. وتركّز المبادرة على ضرورة الخروج بحلّ في هذا الموضوع، باعتبار أن التسليم بحصول فريق العهد على أكثر من 8 وزراء بشكل أو بآخر، يعني الحصول على أكثر من “الثلث المعطّل”، وهذا غير منطقي في مقاربة الأوساط المطّلعة على المبادرة. ويبقى تبلور أيّ معطى جديد حول تفعيل محرّكات بري مرتبطاً ببحث التفاصيل بين الرئاستين الأولى والثالثة. وتشير خلاصة المعطيات إلى اتجاه نحو تزخيم المبادرة في الأيام المقبلة، من دون أن يعني ذلك الوصول إلى أي نتيجة على صعيد إحداث خرق في جدار المُراوحة حتى السّاعة.
الراعي والمؤتمر التأسيسي
وفي المواقف البارزة من الازمة اعلن البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في حوار مع طلاب جامعة القديس يوسف (اليسوعية) “اننا في حاجة إلى السيادة الداخلية ولا يمكن تطبيق ذلك إلا عبر دولة القانون والعدالة وعبر الجيش والقوى الأمنية، وعلى الصعيد الخارجي عبر عدم التدخل بشؤون الدول وحماية أنفسنا من أي إعتداء خارجي”. واعلن ان “الفاتيكان يعمل بطريقة أخرى ويذهب على خط ساخن بالنسبة لقضية لبنان، وأنا أجزم أن تأجيل زيارة البابا فرنسيس للبنان مرتبطة بعدم تشكيل حكومة، وأنا أعتقد أن هذا السبب الأساسي لعدم حضوره” الى لبنان . وأشار الى أنه “لا يعرف ما معنى مؤتمر تأسيسي وما هي أهدافه، وعندما يكون مجهولا نكون ضده لأننا لا نعرف مضمونه وأهدافه، أما المؤتمر الدولي الذي نطالب فيه فهو معروف المضمون والأهداف”.
وقال ” لبنان قائم بالميثاق على العيش معا مسلمين ومسيحيين على تنوع طوائفنا ومذاهبنا، والمثالثة تلغي التوازن، ولا طير بثلاثة أجنحة، وهو خطر لأنه يضرب الميثاق الوطني، ما نريده هو العيش مسلمين ومسيحيين بالمشاركة والمساواة بين الحكم والإدارة، التي اتفق عليها بالطائف وأصبحت بالدستور”.
ونبه الى ان “لبنان بخطر بسبب الممارسة السياسية الخاطئة وبسبب ارتباطات وولاءات بدول أخرى واستيراد عادات وتقاليد وأنظمة وممارسات غير طبيعتنا اللبنانية، وكيان لبنان مهدد، أي هويته وتعدديته وديمقراطيته” ، وقال ردا على سؤال : “الرئيس القوي يجب أن يكون الأول لبنانيا ومتجردا لا مصلحة خاصة له وغير مرتبط بأحد”.