كتبت صحيفة “الأخبار” تقول: صار رفع الدعم عن البنزين أمراً واقعاً. بشّرنا وزير الطاقة أمس بأننا سنكون محظوظين إذا دعم مصرف لبنان استيراد هذه المادة على سعر 3900 ليرة للدولار. حتى هذا إن حدث، فلن يكون لأكثر من ثلاثة أشهر. بعدها، تقول لنا قوى السلطة التي فشلت في وقف الإنهيار، “لا بديل من رفع الدعم بالمطلق مقابل إقرار البطاقة التمويلية”. الأغنياء لن يواجهوا أي مشكلة في دفع 200 ألف ليرة ثمناً لصفيحة البنزين ليستعملوا سياراتهم، أما الفقراء فعليهم أن يستعملوا “أمراً آخر”، على ما قال ريمون غجر. ولأن لا وسائل أخرى متوفرة في لبنان، يبدو أن حمير السلطة ستكون الوسيلة الأفضل
حتى لو كان التحرك الذي دعا إليه الاتحاد العمالي العام مطلبياً، فإنه لم يكن كافياً لتحريك النقابيين، العاجزين حتى عن تأمين البنزين الكافي لوصولهم إلى مراكز التجمّعات في المناطق. حزب الله نفسه، أحد المشاركين في السلطة، استغرب “المشاركة الأحجية في الإضراب، من قبل أطياف سياسية واقتصادية تتحمل مسؤولية كبرى في صنع مأساة المواطنين”. هي أحجية فعلاً. تريد نقابات السلطة، مدعومة من جمعية المصارف وتيار المستقبل وحركة أمل الاعتراض على أداء السلطة نفسها، الذي أوصل الأمور إلى هذا الدرك. والأهم أنها تريد أن توحي بأنها بريئة من دم الشعب. وحده ميشال عون يراد تحميله كل الموبقات. ذلك قد يجوز في السياسة، لكن واقعياً لن يستطيع أحد نزع ثوب المسؤولية عن جسده. يدرك مناصرو أحزاب السلطة ذلك، ولذلك نزلوا بخجل إلى مراكز الاعتصام، إن كان أمام مركز الاتحاد العمالي العام، أو تحت جسر الدورة أو في صيدا وصور وشتورا وطرابلس… حتى إغلاق الطرقات كان محدوداً. لا قوة دفع للتحرك. لم يعد أحد واثقاً بأن النزول إلى الشارع هو الحل في وجه سلطة خبرت التعامل مع الشارع المعارض، فكيف بالشارع الموالي.
السخط الشعبي كبير، ولذلك يفترض أن تكون أي دعوة إلى الإضراب أو الاعتصام قادرة على حشد عشرات الآلاف. لكن إضراب أمس أثبت أن الشارع محبط، بشقيه الموالي والمعارض، والأمل بالتغيير مفقود. ولذلك حتى فقدان السلع الأساسية من الأسواق وارتفاع الأسعار وإقفال المختبرات وتقليص الخدمات الصحية وعزوف شركات التأمين عن تغطية تكاليف الحوادث والاستشفاء وانقطاع البنزين والأدوية وحتى حليب الأطفال لا يحرّك الناس. فغياب الإيمان بالقدرة على التغيير يعني أن أقصى مطلب قد يكون توسّل السلطة إيجاد الحلول للأزمات المتفاقمة. وهذا مطلب لا يمكن أن يؤتمن على تلبيته من كان مسؤولاً عن هذه الأزمات.
أمام كل ذلك، تصبح الحرب السياسية المستعرة على الحصص الحكومية وعلى الفيتوات بمثابة إصرار على قتل أي أمل بإمكانية الخروج من المأزق. هذا من دون الإشارة إلى ما هو واضح: أيّ حكومة لن تكون قادرة على اجتراح المعجزات، حتى لو توفّرت النيّات. لكن مع ذلك، فإن أي حلّ أو أمل بالحل تبقى الحكومة لبنته الأولى. ولذلك، كررت كتلة الوفاء للمقاومة في اجتماعها الدوري اعتبار أن “التنازلات المتبادلة ضرورة حاكمة على الجميع، وليست منقصة لأحد، في حين أن التصلب سيؤدي إلى تعطيل الحلول وتعقيد المعالجات، وإضاعة الفرص الثمينة على الوطن والمواطنين”. وقالت إن “اختلاف المقاربات بين المسؤولين ينبغي أن يكون مدعاة لمراجعة الأفكار والمعطيات وإعادة النظر في تقدير الأوضاع والمواقف، وصولاً إلى تحقيق التفاهم المشترك”.
كلام حزب الله لا يمكن ترجمته في الواقع. هو الذي يدرك أكثر من غيره أن الأفق مظلم وأن الأفرقاء الذين يدعوهم إلى التفاهم غير مستعدين حتى للجلوس حول طاولة واحدة.
إلى ذلك، وأمام هزالة أعداد المعتصمين في مختلف المناطق، كانت الحشود الشعبية تتجمع أمام محطات البنزين في طوابير طويلة مستمرة منذ أكثر من أسبوعين. وعلى ما صار واضحاً، فإن شيئاً لن يكون قادراً على إنهاء هذه الظاهرة، طالما أن مصرف لبنان قرر إيقاف الدعم، وطالما أن البطاقة التمويلية لم تقرّ. وحتى بعدما أعلن مصرف لبنان فتح اعتمادات كانت عالقة، وحتى مع إعلان المعنيين توزيع 12 مليون ليتر يومياً على المحطات، فإن الطوابير لن تخفّ طالما أن الجميع مقتنعون بأن الدعم سيُلغى.
الأسوأ أنه إذا لم تحلّ المشكلة ولم يتمّ الاتفاق مع مصرف لبنان على آليّة لما يُسمّى “ترشيد الدعم”، فإن البنزين قد يفقد من الأسواق خلال عشرة أيام. بحسب مصادر وزارة الطاقة، يصل المخزون الحالي من البنزين إلى 100 مليون ليتر. وهذا المخزون، إذا لم يفتح مصرف لبنان اعتمادات جديدة، كاف لعشرة أيام بالحد الأقصى، علماً بأن ما نقل عن المصرف المركزي في لجنة الأشغال النيابية يؤكد أنه لم يعد مستعداً لفتح اعتمادات جديدة وفق طريقة الدعم الحالية، بحجة أنه ليس قادراً على المس بالاحتياطي الإلزامي. بالنسبة إليه، المطلوب قرار حكومي بـ”ترشيد الدعم” ليسير به، وإلا فإنه “سيضطر” إلى رفع الدعم تماماً، وهو ما بدأ تنفيذه عملياً. وبالرغم من أنه كان وحده من قرر آلية دعم السلع الأساسية (تعميم صدر في الأول من تشرين الأول 2019 وقرر فيه دعم استيراد المحروقات والدواء والقمح)، إلا أنه يرفض “ترشيد الدعم” من دون قرار سياسي. حجته أن الحكومة السابقة هي التي طلبت منه أن يدعم استيراد المحروقات بـ 85 في المئة من سعرها، وأن الحكومة المستقيلة هي التي طلبت منه زيادة الدعم إلى 90 في المئة. في اجتماع اللجنة أمس، نقل وزير الطاقة ريمون غجر عن مصرف لبنان “موافقته” على دعم البنزين والمازوت على سعر 3900 ليرة للدولار، لكن بشرطين: أن يقتصر الدعم على شهرين أو ثلاثة أشهر كحد أقصى، بحيث تكون البطاقة التمويلية قد أقرت خلال هذه الفترة، وأن يأتي القرار من رئاسة الحكومة. أي أمر آخر، سيكون بالنسبة إليه خاضعاً لوضع “الاحتياطي الإلزامي”، الذي يُردّد أنه لن يُمسّ به، علماً بأن الدعم بهذه الطريقة سيعني أن ثمن صفيحة البنزين سيرتفع إلى نحو 60 ألف ليرة، بحسب الأسعار الحالية للنفط، فيما البديل سيكون ارتفاع سعر الصفيحة إلى 200 ألف ليرة، في حال الرفع الكلي للدعم.
وبناءً عليه، توجّه رئيس اللجنة نزيه نجم إلى رئيس الحكومة بالقول: “إذا لم نتخذ قراراً بترشيد الدعم اليوم قبل الغد ونجد حلاً لأزمة البنزين والمازوت، وإذا لم نتجاوب مع الحل كمواطنين فسنذهب الى محل لا بنزين فيه ولا مازوت. وصلنا الى حل 3900 ليرة مع حاكم مصرف لبنان، وعلى الحكومة أن تدرس كيف تستطيع أن تطبّقه وكيف لا يتأذّى المواطنون الذين ليس لديهم إمكانات”.
ولذلك، لم تجد اللجنة سوى أن تصدر توصية إلى الحكومة تطلب فيها “تأليف لجنة وزارية مؤلّفة من وزراء: المالية، الطاقة، الاقتصاد، الشؤون الاجتماعية، الصناعة والأشغال ومصرف لبنان (تُضاف إلى اللجنة الوزارية الموجودة حالياً والتي تدرس منذ نحو سنة ملف الدعم من دون أن تصل إلى نتيجة) لدرس وإقرار خطة لترشيد الدعم ووقف تهريب مادتَي البنزين والمازوت واستبدالها بمنصة افتراضية للمواطنين وللنقل العام البري للحصول على البنزين والمازوت على غرار منصة Impact المتعلقة باللقاح”.
التوصية بتشكيل لجنة جديدة لدرس “ترشيد الدعم”، ليست سوى مؤشّر على أن السلطة لا تبالي فعلاً بالتوصّل إلى حلول، بل أقصى ما تريده هو تخيير الناس بين الاعتياد على الذل أو الاعتياد على ذلّ شراء حاجاتها الأساسية بأسعار تفوق قدرة أغلبية السكان. وزير الطاقة ريمون غجر كان أمس أكثر من عبّر عن طريقة تفكير أهل السلطة، كما لم ينسَ التبرير لمصرف لبنان سلفاً كل ما يقوم به على اعتبار أنه سبق أن حذّر. قال غجر بشكل واضح إن “قدرة مصرف لبنان أن يدعم بالطريقة وبالسرعة التي كان يدعم بها سابقاً ستتوقف. أنذرونا وحاولوا إيجاد طريقة لكي تخفّض كمية الدعم إلى أن تقر البطاقة التمويلية والتي يوجد في داخلها كميات تلحظ ارتفاع أسعار البنزين والمازوت”. وبدلاً من أن يأتي الخبر اليقين من مصرف لبنان، أخذها غجر بصدره: “إلى حين إقرار هذه البطاقة في مجلس النواب بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، فإن مصرف لبنان مستعد لأن يكمل الدعم لكن بطريقة أقل”.
غجر كان أمس أكثر صراحة من كل المنظومة. وهو لم يتردد في قول ما تضمره من لامبالاة بمصير الناس: “الهدف الأساسي، أن علينا أن نتعوّد ونقتنع بأن هذا الدعم الذي استفدنا منه سنة ونصف سنة وربما لسنوات قبل، دون أن نعرف، سينتهي، وعندما يحصل ذلك يجب أن تكون الناس حاضرة، والمقتدرون يجب أن يدفعوا سعر المواد بسعرها الحقيقي، أما الناس غير المقتدرة والتي هي بحاجة الى دعم والقطاعات الحيوية أو الأفراد، فإن البطاقة التمويلية تحل المشكلة”.
تجليات وزير الطاقة لم تتوقف هنا. بل أكمل قائلاً: “الذي لا يستطيع أن يدفع سعر الصفيحة بسعر 200 ألف سيتوقف عن استعمال السيارة وسيستعمل أمراً آخر”. ما هو هذا الأمر؟ هل يعقل أن يكون المقصود هو وسائل النقل العام؟ أيّ نقل عام؟ ربما للإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي على الوزير أن يجيب عن السؤال الآتي: هل يعيش في لبنان؟ هل يعرف أن في لبنان لا يوجد باصات عامة ولا قطار ولا ترامواي ولا مترو ولا سيارات كهربائية ولا حتى كهرباء. حتى الحمير انقرضت، إلا إذا كان الوزير يعد الناس بحمير السلطة.
الاتحاد العمالي العام يشكر القوى الحاكمة!
وقاحة السلطة في مقاربتها مسألة الدعم، لم تجد من يتلقّفها على الأرض. كان كلام وزير الطاقة ريمون غجر، أمس، مادة للسخرية والذم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الاتحاد العمالي العام كان على موجة أخرى. استكمل دوره المعدّ له من قبل السلطة الفاسدة التي أنتجته، إلى حدّ توجّه رئيسه بشارة الأسمر، في اعتصام يفترض أنه ضد السلطة ومجازرها المرتكبة بحق الشعب، بالشكر “إلى من هم في الحكم ودعموا الاتحاد العمالي العام”! وبكل ثقة قال: إن “شعب الاتحاد يجتمع مع مناصري الأحزاب حول لقمة العيش، والاتحاد استطاع جمع الموالين والمعارضين”. الأسمر استعار عبارات السلطة كما هي فقال: “من لا يريد هذه السلطة فليغيّرها في صناديق الاقتراع”.
يحقّ للأسمر التباهي بحضاريّته المدفوعة، لكنه لم يكتف بذلك بل أصرّ على المقارنة بين عظمة تحركات الاتحاد وتحركات المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشارع خلال السنتين الماضيتين، ليخلص إلى أنه أعلى مرتبة منهم. فهؤلاء قطعوا الطرق ودمّروا المؤسسات والأملاك الخاصة والعامة، بينما الاتحاد العمالي العام “يتصرف بصورة حضارية”، معتذراً سلفاً عن قطع الطرق أمس “من قبل بعض المحتجين الذين يموتون كل يوم”.
ولزوم الخطاب، لم ينس الأسمر التوجّه إلى السياسيين بالقول: “توقفوا عن تنفيذ سياسة القتل في حق الشعب، وبادروا الى تشكيل حكومة إنقاذ وإلا الفوضى ستكون عارمة”.
من جهته، توجّه رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي نزيه الجباوي، باسم هيئة التنسيق النقابية، إلى السياسيين بالقول: “كل هذه المصائب والمشاكل… ألا تستدعي منكم وقفة ضمير وإنسانية؟ إلى أين أنتم ذاهبون بمصير البلد، وأنتم تتصارعون على جنس الملائكة؟ إذا لم تبادروا وتتنازلوا، فالعصيان المدني سيكون ملاذنا وطريقنا وبات قاب قوسين أو أدنى”.