الصراع على السلطة موجود في التاريخ منذ أقدم العصور حيث كان ترجمته الأساسية معارك دامية يموت فيها المؤيدون لهذا الفريق أو ذاك في ساحة المعركة بهدف الإستحصال على المغانم. لكن ومع تقدم الوقت وإنتشار الديموقراطيات، أخذ الصراع على السلطة أشكالاً مختلفة حيث أن السيطرة على السلطة في هذه الأنظمة أصبح يتمثل أكثر بسيطرة الأحزاب (بدل الأشخاص) على السلطة وما تّقدمه للشعب من سياسات تُحسّن من مستوى حياته.
يهدف النظام الديموقراطي إلى إعطاء الكلمة الأولى والأخيرة للشعب فيما يخص قراراته المصيرية وإختيار الأشخاص – الأحزاب التي ستقوم بتحقيق هذه القرارات والتطلعات. وبالتالي تسعى الأحزاب – الأشخاص إلى تقديم برامج للرأي العام للحصول على ثقتهم لتنفيذ هذه البرامج. إذًا مُفتاح الوصول إلى السلطة هو القدرة على إقناع الرأي العام بالبرنامج الإنتخابي، ومُفتاح البقاء في السلطة هو تنفيذ هذه البرنامج.
دولة القانون ودولة السلطة
كل هذا يحصل في ما يُسمّى بـ «دولة القانون» التي تُعرِّفها المراجع العلمية على أنها الدولة الخاضعة لقوانين تُنظّم العلاقة بين الدوّلة ومكوّناتها وبين المكونات فيما بينها. بالطبع يُقصد بالمكوّنات، مؤسسات الدوّلة (أي الدّولة نفسها بما فيها السلطة)، الأحزاب، الجمّعيات، الشركات، الأفراد… وبالتالي هناك مُقوّمات جوهرية تُحدّد طبيعة دولة القانون وهي: الدستور، القواعد القانونية، خضوع الجميع للقانون، والحريّة الفردية. وكنتيجة طبيعية لهذه المقوّمات، يأتي الفصل بين السلطات كضمانة أكيدة لتطبيق موضوعي للقوانين وخضوع الجميع لها بما فيها الدولة ومؤسساتها، بالإضافة الى الرقابة على كل سلطة؛ وكل ذلك ضمن نظام ديموقراطي يكون الشعب مصدر سلطاته.
«لا توجد سلطة، بل إساءة استخدام للسلطة، لا شيء غير ذلك»! هذا ما قاله هنري دي مونثيرلانت عند وصفه السلطة وعمل المسؤولين في السلطة. من هذا المنُطلق يسعى المسؤولون عادة إلى إساءة إستخدام السلطة عبر تقديم مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة. هذا الأمر تتّم المحاسبة عليه في الدول حيث تطبق الديموقراطية بشكل جيّد، أما في الديموقراطيات حيث الإسم دون التطبيق، فلا يوجد هناك أي مُحاسبة! وإليكم الطريقة.
عمليًا الوصول إلى السلطّة (بشكل سلمي) قد يكون من خلال ثلاث طرق: الأولى هي من خلال برنامج يربح من خلاله الحزب أو الشخص ثقة الشعب وتوصله إلى السلطة؛ الثانية، هي من خلال التوريث السياسي وهذه حالة لبنان بامتياز؛ والثالثة عن طريق الصدفة حيث يأتي شخص إلى السلطة عن طريق الصدفة كما يحصل في لبنان حين يكون هناك تحفظات (فيتو) على الآخرين.
أما الحفاظ على السلطة فيكون من خلال نوعية ونتائج الخدمة التي يُقدمها المسؤول لشعبه الذي يُعاود إنتخابه (حالة ميركل في ألمانيا)، لكن الحفاظ على السلطة في دولة «اللا قانون» فهو يسلك طريق أخر،إذ ضمان إعادة الإنتخاب يأتي من خلال السيطرة على دوّلة القانون الناتجة عن عدم تطبيق القوانين وبالتالي غياب المُحاسبة.
وبالتالي بدل أن تكون السلطة هي ترجمة لعمل ديموقراطي، تُصبح السلطة فريق مثلها مثل أي حزب أو شركة، في صراع مع الدولة نفسها. وبغياب ضمانة تطبيق القوانين (الأجهزة الرقابية وعلى رأسها القضاء) تتوغل السلطة في الدوّلة العميقة وتُخضعها لأرادتها الخاصة من خلال زرع «نفوذها» في كل مناصب الدولة تحت شعارات عديدة منها الميثاقية ونتائج الانتخابات والطائفية وغيرها من الأعذار التي تؤدّي إلى غياب دولة القانون لصالح دولة السلطة.فهل سيطرة السلطة على الدولة، بدل أن تكون أداة لإدارتها وتنفيذ طموحات شعبها، هي بداية الإحتضار؟
يقول الباحثون في علم السياسة أن أحد أهمّ مؤشرات دولة القانون هي تداول السلطة التي تُعتبر نقطة مُضيئة في تاريخ قيام الدولة على أساس أن السلطة الجديدة تحمل برامج جديدة تهدف إلى إنماء مُستدام. السياسات الاقتصادية ومنذ منتصف سبعينات القرن الماضي، تحوي على ثلاثة أقطاب: القطب الإقتصادي، والقطب الإجتماعي، والقطب البيئي. وبالتالي أي سياسة إقتصادية يجب أن تحوي على إجراءات تجعل التطور في هذه المجالات الثلاث، مُستمرًا وذا منفعة إيجابية على المواطن. والبرامج السياسية للأحزاب الطامحة للسلطة (وهو أمر مشروع) يجب أن تحوي عادة على خطوات مُحدّدة تضمن تطورًا إيجابيًا على الصعيد الاقتصادي والإجتماعي والبيئي. وتأتي مُحاسبة الأحزاب في الانتخابات النيابية على أساس تحقيق الوعود في هذه المجالات. لكن في حال تحوّل الدولة من دولة القانون إلى دولة سلطة، هناك إستحالة لمحاسبة الأحزاب في الانتخابات بحكم أن السلطة تملك وسائل متوافرة أمامها للسيطرة على الصوت الإنتخابي (قانون الإنتخاب، النفوذ، وأهمها الفقر…).
الفساد هو أحد أوجه الصراع على السلطة وهو واقع موجود في التاريخ السياسي والإداري على مرّ العصور، لكنه أخذ بعدًا ثقافيًا في لبنان وبعض الدول العربية أكثر منه في الدول الأخرى. وهذا الفساد يُشوه السياسات الإقتصادية بأوجهها الثلاث ويؤدّي إلى تردّي مُحَتّم في مستوى معيشة المواطن.
الفساد يمنع تطبيق سياسات إقتصادية وإجتماعية وبيئية سليمة، ويدفع إلى خلق مشاريع «الفيل الأبيض» – أي المشاريع ذات الكلفة العالية من دون جدوى إقتصادية.
وقد منع هذا الفساد لبنان من الحصول على إقتصاد مُنتج عبر الإعتماد بالدرجة الأولى على الإستيراد الذي أمّن مداخيل هائلة لهذا النظام الأوليغارشي. ولقد بلغت كلفة الفساد المباشرة (مداخيل خزينة الدولة) وغير المباشرة (غياب الفرص الاقتصادية) على الاقتصاد اللبناني بحسب تقديراتنا عام 2015 أكثر من عشرة مليارات دولار أميركي سنويًا. ويجب التذكير في هذه المناسبةأن الاقتصاد الذي يحوي على موارد غير مُستخدمة يُسمّى بإقتصاد «مُتخلّف» بحسب النظرية الاقتصادية،وكذلك المُجتمعات التي تحوي على فقراء يتمّ تصنيفها على أنها مُجتمعات مُتخلّفة. فما هو حجم التخلّف في إقتصادنا؟
للجواب على هذا السؤال يكفي النظر إلى شركة مثل شركة مايكروسوفت والتي تبلغ قيمتها السوقية ما يوازي التريليون دولار أميركي، في حين أنها تبيع برامج كمبيوتر. وفي لبنان الذي يحوي على العديد من الأصول المادية الثمينة مثل المرافق العامة والثروة الغازية في البحر وغيرها، هناك دين عام يفوق المئة مليار دولار أميركي!
للأسف أصبح لبنان يتدلّى في التخلّف والإجترار الفكري والحضاري وهو الذي كان لؤلؤة الشرق قبل العديد من جيرانه. أين هو الإبداع الفينيقي الذي ميّز التاريخ اللبناني، وأين هو الإبداع المسيحي الذي أنار الشرق وشدّ أوصال القومية العربية، وأين هي الحضارة التي بعثها الإسلام والتي نهضت بالأمة العربية في القرون الماضية؟ كل هذا التردّي والتراجع هو بسبب الفساد التي يُستخدم في الصراع على السلطة وبحجج دينية وطائفية.
الفساد في لبنان أسقط الدولة وأوصل اللبناني إلى نقطة أصبح يحتاج فيها إلى مساعدات خارجية لتأمين حاجاته الغذائية والمواد الأساسية من أدوية ومحروقات! قروض على مرّ السنين تمّ إقتراضها وصرفها من دون جدوى للمواطن، وعشرات لا بل مئات المليارات تمّ إنفاقها على الإستيراد دخلت في جيوب مُستفيدين يُحاضرون بالعفّة!
لبنان في مسار ظلامي دامس لا يُمكن له الخروج منه إلا بإنهاء الصراع على السلطة وممارسة الديموقراطية بمعناها الحقيقي، والتنافس على خدمة الشعب الذي يضّمن تجديد الثقة عند كل إنجاز للسلّطة.
رفع الدعم أصبح واقعا
الفساد الذي لم يتوقّف إلى الآن (لا بل زاد ويزداد يوما بعد يوم!) على الرغم من كل ما حصل ويحصل من إنهيارات، كان ولا يزال سببًا رئيسيًا في خروج الدولارات من لبنان وفي الحصار الاقتصادي والمالي الذي يُخيّم على لبنان. التهريب والإحتكار أدّيا إلى خسائر في إحتياطات مصرف لبنان (6.2 مليار دولار أميركي في عام واحد) وبالتالي ومع وصول الإحتياطات إلى مستوى الإحتياطي الإلزامي، أصبح الإستمرار في الدعم أمرًا مُستحيلاً إلا إذا ما تمّ إستخدام دولارات المودعين.
وهذا الأمر يواجه مُشكلة قانونية تتمثّل بمخالفة الدستور لأي مسّ لهذه الأموال، وأخرى أخلاقية تتمثّل في «سرقة أموال الشعب» الممنوع من الحصول على أمواله بسبب الفساد في الدولة اللبنانية.
الإجراءات الحكومية – أي منع التهريب والإحتكار ومكافحة السوق السوداء – غائبة بالكامل وكأن السلطة متواطئة (!) وإلا لماذا لا يتمّ منع تهريب مئات الصهاريج التي يتمّ تهريبيها يوميًا وأطنان الأدوية والمُستلزمات الطبّية التي يحتكرها حفنة من الخدم السلطوي؟
عمليا الدعّم إنتهى والمرحلة الحالية هي مرحلة إنتقالية حيث سيتمّ وقف الدعم تدريجيًا في فترة لا تتعدّى الشهرين كأقصى حدّ. وبالتالي وخلال هذه المرحلة يتوجّب على أجهزة الدولة أن تكون مُستنفرة وجاهزة لمكافحة الإحتكار والتلاعب بالأسعار.
لكن كلنا يعلم أن هذا لن يحصل للأسف! وبالتالي سترتفع الأسعار بشكل جنوني وستُصبح رهينة سعر الدولار في السوق السوداء الذي تُديره حفنة من الصرافين، والتجار والمصرفيين بالإضافة إلى مُهربين وكل ذلك بغطاء من أصحاب النفوذ!
الفقر سيرتفع وإذا لم يقم المجتمع الدولي بمبادرة إنسانية من خلال مُساعدات غذائية ومواد أولية، فإن الفقر سيتخطّى الـ 90 في المئة في الأشهر القادمة.
صفيحة البنزين والتضخّم
سعر صفيحة البنزين هو مؤشر أساسي في السياسات الاقتصادية بحكم أنه يدخل في صناعة، تغليف أو نقل 95% من السلع والمواد والخدمات التي نستهلكها. وبالتالي، يأتي ارتفاع سعر صفيحة البنزين ليزيد من التضخّم وهو ما يُعرف بالتضخمّ المُتغلغل وإذا كان ناتجًا عن ارتفاع أسعار النفط العالمية، فيُسمّى عندها بالتضخّم المُستورد.
مصرف لبنان العاجز عن تأمين الدولارات لشراء البنزين والمحروقات عامة بسبب تهريب أكثر من 60% منها إلى الخارج، إقترح آلية لرفع الدعم تنصّ على التمويل على سعر الـ 3900 ليرة لفترة مُعينة لا تزيد عن شهرين قبل رفع الدعم بالكامل وذلك تفاديًا لإرتفاع فجائي بسعر الصفيحة. هذا الأمر يعني أنه في المرحلة الأولى سيرتفع سعر الصفيحة إلى حدود الـ 70 ألف ليرة لبنانية قبل أن تقفز إلى أكثر من 200 ألف ليرة لبنانية (على سعر السوق السوداء الحالي) حين يتمّ رفع الدعم بالكامل.
بالطبع هذا الأمر سيجعل الذهاب إلى العمل يوميًا أمرًا غير مُمكن نظرًا إلى كلفة النقل إذ ستُصبح بحدود الـ 800 ألف ليرة لبنانية لأربع صفائح بنزين في حين أن الحد الأدنى للأجور هو 675 ألف ليرة لبنانية!
لكن الأخطر في الموضوع هو أن التجار الذين يرفضون الشيكات المصرفية والبطاقات المصرفية ويفرضون العملة النقدية، سيدفعون المصرف المركزي إلى طبع العملة لتلبية الطلب الكبير على الكاش وهو ما سيرفع التضخّم إلى مستويات نعتقد أنه لن يكون هناك إمكانية بعدها للسيطرة على الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية.
من هذا المُنطلق، نرى أنه من الضروري أن تفرض الحكومة على التجار قبول وسائل الدفع الأخرى تفاديًا لطبع العملة والذي سيجعل الحفرة أعمق والخروج منها سيكون صعبا جدًا. فهل تقوم الحكومة بهذه الخطوة أم أن هناك طمعا في ما تبقّى من دولارات في منازل اللبنانيين؟