كأنّه مكتوب على هذا البلد أن ينتقل من أزمة إلى أزمة أشد وطأة من سابقتها؛ وسلطة الإفلاس مستوطنة أبراجها عاطلة عن المسؤولية؛ لا ترى ولا تسمع ولا تفعل، تنشر العتمة في الأرجاء وتطفىء كل بارقة نور تؤشّر الى انفراج… أما المواطن اللبناني، فصار يتيمَ سلطة ترعاه وتحميه، صار للجوع والوجع عنواناً، صارت طوابير الإذلال بيته، ويومياته التسوّل لرزقه وقوت أبنائه وعائلته ودوائه ومدّخراته المسروقة. وهكذا وبكلّ وقاحة وفجور، تمضي السلطة في جريمتها بدم بارد حتى تقضي على آخر لبناني.
سيناريوهات وتحذيرات
الحديث يتزايد في كلّ الأوساط وعلى كلّ المستويات عن احتمالات وسيناريوهات خبيثة ومخيفة، بات لبنان على قاب قوسين او أدنى من أن يسقط فيها. تعزّزه مراسلات سرية تَرد من الداخل والخارج الى مستويات مسؤولة، على شكل تقارير أمنية، او ديبلوماسية، تتقاطع عند التحذير من افتعالات تفجيريّة سياسياً واقتصادياً ومالياً وعلى مستوى الأمن في الشارع.
في موازاة هذه الصورة المقلقة، تتبدّى حال من الارباك وانعدام الرؤية لدى كلّ المستويات، وخصوصاً لدى منظومة الإفلاس السياسي والتفليس المالي القابضة على الدولة والقرار.
أياد خفيّة!
الطافي على السطح الداخلي، عجزٌ عام عن فهم ما يجري، وما يُحَضّر لبلد يدور حول نفسه منذ أشهر طويلة. كأنّ «الأيادي الخفيّة» من الداخل او من الخارج تعبث بالبلد وأمنه واستقراره، وتستثمر على ملهاة الطبقة الحاكمة وحربها المفتوحة على بعضها البعض على حلبة التأليف وصراع الشريكين فيه الذي لا ينتهي، ولا يبدو أنه سينتهي، وعلى نار الأزمات المشتعلة اقتصادياً ومعيشياً ومالياً، وعلى إذلال المواطنين امام محطات المحروقات، وعلى الناعقين على الشاشات، بالشرّ الكبير والكارثة الكبرى التي لم تأتِ بعد!
مرجع يحذّر
وفي الوقت الذي ظلّ فيه الوضع في طرابلس في دائرة الحذر، سجّل إشكال وظهور مسلح في منطقة عكار العتقية.
وفي هذا السياق، قال مرجع أمني لـ»الجمهورية»: «إنّ الوضع في لبنان على جانب كبير من الخطورة»، كاشفاً عن «رصد تحرّكات مشبوهة ومحاولات للتخريب والإخلال بالأمن». وقال: «نشعر بقلق جدّي، فالوضع يتطلّب أعلى درجة من الإنتباه».
وأكد «أنّ الأمن خط أحمر، والأجهزة الأمنية والعسكريّة تقوم بواجباتها لحمايته، وهي في أعلى درجات اليقظة والجهوزية والتنسيق بين بعضها البعض، لإحباط أيّ محاولة للعبث في أمن البلد واستقراره، وهي لن تسمح لأيّ كان بأن يستغلّ وجع الناس لتخريب البلد.
قائد الجيش
وبالتوازي مع تأكيد المرجع الامني بأنّ الوضع في طرابلس دقيق، سجّل حضور لقائد الجيش العماد جوزف عون في المدينة في زيارة تفقدية، طمأنَ فيها الطرابلسيين، وتوجّه إليهم بكلمة من ثكنة بهجت غانم في القبة، قائلاً: «لأهلنا في الفيحاء العريقة، نحن منكم ووجعكم وجعنا، وأمنكم أمانة في أعناقنا واستقرار المدينة مسوؤليتنا جميعاً». وتابع: «من غير المسموح لأيّ كان المَسّ بأمن مدينة طرابلس، ولا تساهل أو تهاون مع مَن يعبث بالاستقرار كائناً مَن كان».
لا جديد حكوميّاً
على أنّ هذه المخاطر التي تتهدّد البلد، لا يبدو أنها ستحرّك سلطة الإفلاس في الاتجاه الذي يبدّد هواجس الناس ومخاوفهم. قداسة البابا فرنسيس أطلق صلاة من أجل لبنان وتضرّع الى الله لإنقاذه وعبّر عن قلقه البالغ على مصيره، وكل العالم يقول إنّ أولى خطوات خروج لبنان من أزمته تتمثّل في التعجيل بتشكيل حكومة، فيما السلطة تتحدّى كلّ العالم وتدوس ما يريده اللبنانيون، بإصرارها على أن يبقى هذا البلد مسكوناً بشبح التعطيل وبإرادة هدم الدولة ومؤسساتها والإبادة الجماعية لكلّ الشعب اللبناني.
كل تلك النداءات وحتى التوسّلات الخارجية، لم تتمكّن من ثَني معطّلي الحلّ في لبنان عن مسارهم القاتل للبلد وأهله، وحَملهم على حَرف هذا المسار في الاتجاه الذي يفتح الأفق المسدود ويكسر جريمة التعطيل المتعمّد لتشكيل الحكومة، وكل يوم يمضي يوسّع المسافة الفاصلة بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف، ويعمّق الخلاف بينهما أكثر.
صدمة
في هذا السياق، يؤكّد مرجع مسؤول لـ»الجمهورية» انه لا يرى أملاً لتفاهم او اتفاق بين الشريكين اللدودين عون والحريري على تشكيل حكومة، فكلاهما أخرجا كل ما يُضمرانه تجاه بعضهما البعض، والعلاقة التي تفسّخت بينهما لا تنفع معها تمنيات، بل انّ ذلك صار يتطلّب «صدمة» تفرض عليهما التفاهم. وما زلت أرى أملاً من الاجتماع الاخير بين وزراء خارجية الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والسعودية، ليؤسّس لمثل هذه الصدمة».
ورداً على سؤال عمّا يحكى عن أنّ الرئيس المكلف قد حسم خياره بالاعتذار عن عدم تأليف الحكومة، قال المرجع: أولاً، الرئيس الحريري أعلن أنه ملتزم بالمبادرة الفرنسية وبمبادرة الرئيس نبيه بري اللتين تؤكدان تشكيل حكومة برئاسته. وثانياً، لم يصدر عن الرئيس المكلف أي كلام مباشر من هذا النوع، فكل ما يُقال في هذا الاطار ليس سوى تحليلات وسيناريوهات تطلق من هنا وهناك وتقول انّ الرئيس المكلف قرر الاعتذار. لا اعتقد أنّ الرئيس المكلف أعطى سرّه لهؤلاء، بعض هذه التحليلات قد تكون بريئة وناتجة عن قراءة خاطئة لموقف الرئيس المكلف، ولكن في المقابل انا على يقين من أنّ هناك من يتعمّد الترويج لاعتذار الحريري عبر بعض المحسوبين عليه، بقصد استفزازه، فربما فعلها واعتذر. في الخلاصة، طالما انّ الحريري لم ينطق بالاعتذار فكل الكلام الذي يُقال حوله لا قيمة له على الاطلاق.
الخارجية الاميركية
وفي موازاة تعويل المرجع المسؤول على اجتماع وزير الخارجية الاميركية انتوني بلينكن ووزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان ووزير الخارجية السعودية فيصل بن قحطان، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس إنّ المجتمع الدولي كان واضحاً في أنّ الإجراءات الملموسة تظل حاسمة من أجل إطلاق الدعم الهيكلي الطويل الأمد للبنان. وكل ذلك تمّت مناقشته في الاجتماع الثلاثي الذي جمع الوزير بلينكن ونظيريه الفرنسي والسعودي.
وأكد برايس «أنّ هناك مصلحة دولية مشتركة في تحقيق الاستقرار في لبنان، وتقديم الإغاثة الإنسانية للشعب اللبناني، وتأمين الحكومة التي يستحقها اللبنانيون، حكومة تخدم مصالحهم».
إستجوابات واستدعاءات
قضائياً، برز أمس تطور لافت مرتبط بالتحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، تمثّل في إطلاق المحقق العدلي في الانفجار القاضي طارق البيطار مسار الملاحقات القضائية في هذا الملف بعد الانتهاء من مرحلة الاستماع إلى الشهود، حيث حدد موعداً لاستجواب رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، كمدّعى عليه في القضية، من دون أن يعلن تاريخه. ووجّه كتاباً إلى مجلس النواب بواسطة النيابة العامة التمييزية، طلب فيه رفع الحصانة النيابية عن كل من وزير المال السابق علي حسن خليل، وزير الأشغال السابق غازي زعيتر ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، تمهيداً للادعاء عليهم وملاحقتهم، كما وجّه كتابين: الأول إلى نقابة المحامين في بيروت لإعطاء الاذن بملاحقة خليل وزعيتر كونهما محاميين، والثاني إلى نقابة المحامين في طرابلس لإعطاء الاذن بملاحقة وزير الأشغال السابق المحامي يوسف فنيانوس، وذلك للشروع باستجواب هؤلاء جميعاً بجناية القصد الاحتمالي لجريمة القتل وجنحة الإهمال والتقصير.
كما طلب المحقق العدلي من رئاسة الحكومة، إعطاء الإذن لاستجواب قائد جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا كمدّعى عليه، وطلب الإذن من وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال العميد محمد فهمي، للادعاء على المدير العام لجهاز الأمن العام اللواء عباس إبراهيم وملاحقته. ووجّه القاضي البيطار كتاباً إلى النيابة العامة التمييزية بحسب الصلاحية، طلب فيه إجراء المقتضى القانوني في حق قضاة. وشملت قائمة الملاحقات قادة عسكريين وأمنيين سابقين، إذ ادّعى البيطار أيضاً على قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، مدير المخابرات السابق في الجيش العميد كميل ضاهر، العميد السابق في مخابرات الجيش غسان غرز الدين، العميد السابق في المخابرات جودت عويدات.
وأصدر البيطار قراراً بتخلية سبيل الرائد في الأمن العام داود فياض والمهندسة نايلة الحاج، المسؤولة في الشركة المتعهدة لأعمال صيانة العنبر رقم 12 في حرم المرفأ.
زعيتر وخليل
وقد صدر عن النائبين خليل وزعيتر بيان أعلنا فيه: «بعد اطلاعنا من وسائل الاعلام على طلب المحقق العدلي في جريمة المرفأ الإذن من مجلس النواب للاستماع إلينا وفق الأصول، نؤكد استعدادنا فوراً وقبل صدور الاذن المطلوب للحضور أمام المحقق لإجراء اللازم للمساعدة في الوصول الى الحقيقة وتحديد المسؤوليات في هذه الجريمة».
بري: لتطبيق القانون
وقال الرئيس بري، رداً على سؤال لـ»الجمهورية» حول ما قرّره القاضي البيطار: «نحن مع تطبيق القانون مئة في المئة».
وزير الداخلية
واعلن وزير الداخلية في حكومة تصريف الاعمال محمد فهمي أنّه أعطى الإذن لملاحقة مدير الأمن العام اللواء عباس ابراهيم في قضية انفجار مرفأ بيروت. وقال في تصريح له: «بما أنّ طلب المحقق العدلي في قضية المرفأ القاضي طارق البيطار لملاحقة اللواء ابراهيم راعَى كل الاصول القانونية، لا يمكنني إلّا أن أعطي إذن الملاحقة احتراماً للقانون».
لقاء الفاتيكان
من جهة ثانية، وغداة لقاء الفاتيكان والصلاة لأجل لبنان، أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أنّ «البابا فرنسيس مصمّم على وضع القضية اللبنانية نُصب عينيه، وأنه يريد أن يحملها حتى النهاية».
وأعلن الراعي انه سيعمل جديّاً بعد لقاء الفاتيكان على موضوع جمع المسؤولين من أجل تشكيل الحكومة.
ورداً على سؤال عن «حزب الله»، قال: «لا يحق له ان يقرّر الحرب والسلم ووَضع رئيس الجمهورية والحكومة والشعب على جنب».
وأشار الى أنّ «المجتمع الدولي يقول إنه غير راضٍ عن المسؤولين وأدائهم، والجميع يُخالف الدستور ومن ضمنهم رئيس الجمهورية، بدءاً من طريقة تأليف الحكومة وصولاً إلى طريقة العمل ككلّ».
وعن المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية قال: «طبعاً لا أطالب باستقالته، فالمسؤولية ليست محصورة به فقط بل تتعلق بكل المجموعة السياسية». وأردف: «نحن مع رئيس الجمهورية وصلاحياته وفق الدستور، وأطالب دائماً بأن يكون الدستور طريقاً وهناك آلية دستورية لاستقالة رئيس الجمهورية، ولا يمكن القول في الشارع «فليسقط الرئيس»، ولا أطالب بإسقاطه فالمسؤولية لا تقع عليه فقط إنما على الجميع».
عون
من جهته، قال رئيس الجمهورية العماد ميشال عون انّ اللبنانيين سيلاقون الحبر الأعظم في دعوته إلى إنقاذ وطنهم، وهم ينتظرون زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى بلادهم لكي يُعلن معهم قيامة لبنان من كبواته، وليؤكدوا أنهم استحقوا وطنهم وقد عملوا معاً على استنهاضه وصَون وحدتهم الوطنية التي تبقى درع حمايته الأسمى والتي بها يبقى وطن الحضور والرسالة.
بري
وعلّق رئيس مجلس النواب نبيه بري على لقاء الفاتيكان وما تضمنه من صلاة وتضرّع، وقال: «هي دعوة صادقة من أهل الارض لرب السماء، من أجل إنقاذ لبنان واللبنانيين. فلنلاقِ ذلك الدعاء وتلك النوايا الصادقة بالعمل الصادق لإنقاذ لبنان وإنزاله عن جلجلة المصالح الشخصية والاحقاد، إستجابة لأحفاد تلك المرأة الكنعانية التي استَشهَد بها قداسة البابا «أغثني يا رب». وسأل: «هل ما زال هناك من مساحة نسمع فيها نداء الأرض والسماء لإنقاذ لبنان الوطن والرسالة»؟
مراسلات وتقارير أمنية محلية وخارجية تحذّر من افتعالات تفجيريّة سياسياً واقتصادياً ومالياً وعلى مستوى الأمن في الشارع
بري حول قرار القاضي البيطار: «نحن مع تطبيق القانون مئة في المئة»
مرجع مسؤول لـ«الجمهورية»: هناك من يتعمّد استفزاز الرئيس المكلّف، وطالما انّ الحريري لم يقل إنه سيعتذر فكل كلام في هذا الشأن لا قيمة له
«الوضع في لبنان على جانب كبير من الخطورة»