لعلّها من المرات النادرة التي تكون فيها ردود الفعل الدولية على نكسة حكومية كتلك التي نشأت عن اعتذار الرئيس سعد الحريري عن عدم تشكيل الحكومة اكثر كثافة وسرعة واشدّ تعبيراً عن القلق التي ينتاب المجتمع الدولي على لبنان في ظل الوجه الجديد للأزمة من ردود الفعل الداخلية التي بدت كأنها أصيبت بالتهيب والارتباك الى حدود التزام معظم القوى الأساسية جانب الترقب والصمت في انتظار انقشاع الرؤية الشديدة الغموض.
وأياً تكن الشكوك المشروعة في التساؤل عما ستؤدي اليه ردود الفعل الدولية المسارعة الى إبداء القلق على الاستقرار في لبنان، فإن ذلك لا يحجب الأهمية التي تكتسبها هذه الردود والتي تنطوي ضمناً على إدانة واضحة لم تعد تخفى معالمها للعهد وفريقه وحليفه”حزب الله” في مسار تعطيل تشكيل الحكومة وإفقاد البلاد الفرصة التي قد تكون الأخيرة للجم الانهيار الكبير في وقت لم يعد بعيداً اطلاقاً. فما تسبب به الفريق الماضي في التعطيل بعد اقفال منافذ التسويات بدأ يرتسم بقوة تصاعدية يومياً مع الارتفاع المطرد المخيف لسعر الدولار في السوق السوداء ، كما مع ازدياد معالم التفلت الأمني كلما ضاقت سبل العيش بالناس والخشية من اشتعال واسع في الشارع كما برز في اليومين الأخيرين خصوصاً في جبل محسن حيث أصيب عشرات المحتجين وعشرات الجنود في مواجهات حادة أمس على خلفية الاحتجاجات الاجتماعية والتعرض لوحدات الجيش بالعنف المستشري. واما تفاقم الأزمات الحياتية فحدث ولا حرج، بدليل عودة ازمة المحروقات الى أسوأ مما كانت عليه، كما ازمة انقطاع الكهرباء بفعل التقنين الصارم وافتقاد المولدات الى المازوت، كما ازمة انقطاع عشرات الأصناف من الادوية وعودة الصيدليات امس الى الاضراب وسط الصراع المنفجر بين وزارة الصحة ومصرف لبنان.
في صلب المشهد السياسي، فإن الوقائع التي برزت غداة اعلان الرئيس الحريري اعتذاره وتحديده مواقفه من هذا التطور ومن علاقته بمعظم القوى السياسية في المقابلة التلفزيونية مساء الخميس، ابرزت بما لا يقبل جدلاً ان البلاد ذاهبة الى ازمة تكليف مفتوحة مهما حاول العهد وفريقه الزعم أانهما يملكان القدرة على “ابتداع ” رئيس مكلف بسرعة وسهولة، فيما العهد سقط واقعياً في شباك ما ارتكبه من خلال إطاحته بفرصة كانت سترتد عليه أولا بالإيجابيات التي يحتاج الى الحد الأدنى منها بعدما شارفت البلاد على نهاية دراماتيكية تاريخية تحت ظل عهده.
وتشير كل الوقائع الى ان تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة لتكليف شخصية تشكيل الحكومة لن يكون بالسهولة المزعومة التي يبديها العهد وفريقه لان ما تسببت به عوامل دفع الحريري الى الاعتذار أثارت تداعيات لن يكون أقلها #أزمة تكليف مفتوحة لن يتقدم فيها أي طرف او أي شخصية للترشح للتكليف خشية الاحتراق ونزع الغطاء السني عنه تماماً. وهو الامر الذي يعني ان العهد سيغدو محاصراً نفسه بنفسه وستبدأ مرحلة طرح الخيارات التي لن تبعد عن إيجاد شخصية بلا أي وزن سياسي تمثيلي، وهنا سيكون الأفضل الإبقاء على ستاتيكو حكومة تصريف الاعمال لئلا يختلف أي تكليف او تغيير حكومي في حال التمكن منهما عن استبدال حكومة بنسخة طبق الأصل عنها.
ومع ان أي جديد لم يبرز بعد في الساعات الأخيرة فان الحركة الناشطة في بيت الوسط التي عكست إدارة الرئيس الحريري لمحركات المشاورات الكثيفة أولا داخل فريقه، وكذلك مع رؤساء الحكومات السابقين توحي بانطلاق الاستعدادات لاتخاذ الموقف من التكليف والتشكيل والمرحلة المقبلة بمجملها. وعلمت “النهار” ان رؤساء الحكومات السابقين في اجتماعهم امس في بيت الوسط لم يتخذوا أي موقف بعد وأنهم باشروا المشاورات ولكنهم ينتظرون الخطوة المقبلة لرئاسة الجمهورية وهم ليسوا في وارد تسمية أي شخصية للتكليف بطبيعة الحال ولكنهم ليسوا متجهين الى تصعيد فيما البلاد تشهد اخطر الظروف. وإذ بات مستبعدا اكثر فاكثر ان يقبل الرئيس نجيب ميقاتي طرح اسمه للتكليف كما تردد على نطاق واسع من خلال محاولات معه، فان رؤساء الحكومات الأربعة يتريثون في اعلان الموقف ريثما يحدد العهد خطوته التالية وريثما تكتمل صورة المواقف الداخلية والخارجية من الازمة.
الاصداء الدولية
في غضون ذلك بدت لافتة كثافة ردود الفعل الدولية بما يعكس تراكم المعطيات المقلقة لدى الدول المعنية بلبنان حيال المرحلة الطالعة . وفي هذا السياق، أبدت وزارة الخارجية الأميركية “قلقها من استقالة سعد الحريري كرئيس وزراء مكلف” وقالت “تحتاج الطبقة السياسية اللبنانية إلى تنحية الخلافات الحزبية الصغيرة جانبًا بدلاً من إلقاء اللوم على بعضهم البعض، من أجل تشكيل حكومة قادرة على معالجة الحالة المقلقة في البلاد”. وكان وزير الخارجية الاميركي انطوني بلينكن قال ان “اعتذار الحريري عن عدم تشكيل حكومة تطور آخر مؤسف لشعب لبنان”. ولفت بلينكن الى ان من الأهمية بمكان أن يتم تشكيل حكومة لبنانية قادرة على تنفيذ الإصلاحات ذات الأولوية. واعتبر ان الطبقة السياسية في لبنان أهدرت الشهور التسعة الماضية والاقتصاد اللبناني في حالة سقوط حر.
كما ان الخارجية الفرنسية وصفت قرارالحريري بالتخلي عن تشكيل الحكومة بانه “يؤكد ان الأداء السياسي الذي يعتمده القادة اللبنانيون أعاق البلاد لأشهر، وجعله يغرق في أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة”. أضافت: “هناك الآن ضرورة ملحة للخروج من هذا المأزق المنظم وغير المقبول، وإمكانية تشكيل حكومة في لبنان، وهذا يتطلب الشروع الفوري في المشاورات البرلمانية بهدف تعيين رئيس وزراء جديد في أقرب وقت ممكن”.وذكرت بان فرنسا تنظم مؤتمرا دوليا جديدا لدعم الشعب اللبناني في 4 آب بمبادرة من رئيس الجمهورية الفرنسية ايمانويل ماكرون وبدعم من الأمم المتحدة .
ودعا الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل “جميع القوى السياسية اللبنانية إلى دعم التشكيل العاجل للحكومة. وينبغي أن تبدأ الاستشارات النيابية لهذا الغرض دون تأخير.”
كما دعت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونِتسكا الى “التحرك سريعاً لضمان تكليف رئيس وزراء جديد، بما يتماشى مع الاستحقاقات الدستورية، والى تأليف حكومة قادرة على تطبيق الإصلاحات الضرورية لوضع لبنان على طريق التعافي قبيل إجراء الانتخابات في العام 2022 التي يجب أن تتسم بالحرية والنزاهة”.
جبل محسن والشارع
وسط هذه الأجواء وبالتزامن مع ارتفاعات جديدة في سعر الدولار، استعاد الشارع حرارته المتفجرة بدءاً من طرابلس مع أعمال قطع الطرق احتجاجاً على الغلاء الفاحش وارتفاع سعر صرف الدولار. ثم دارت مواجهات عنيفة في جبل محسن بين مجموعات من المحتجين والجيش أدت الى سقوط عشرات الجرحى بين الفريقين. وعادت الاحتجاجات إلى الشوارع وعمليات قطع الطرق في مختلف المناطق حيث قطع عدد من المحتجين اوتوستراد الناعمة بالاتجاهين، ومستديرة وجسر الكولا بمستوعبات النفايات، وتقاطع عبد الناصر كورنيش المزرعة وتمّ قطع دوار العبدة، وطريق المحمرة، اوتوستراد المنية، ديرعمار. وقام عدد من المحتجين بقطع عدد من الطرق الرئيسية والفرعية في صيدا .