في كلمةٍ ألقاها خلال مراسم أدائه اليمين الدستورية لولاية رئاسية رابعة، تطرّق الرئيس السوري بشار الأسد إلى الملفات الإقتصادية السورية مُشيرًا إلى أن سوريا تواجه اليوم حربًا إقتصادية. وإذ وضع توجّهات السياسة الإقتصادية على مدى السنوات السبع القادمة، أشار الرئيس الأسد إلى أن»أحد أكبر العوائق التي تواجهها سوريا يكمن في تجميد أموالها في المصارف اللبنانية» مُقدّرًا هذه الأموال ما بين 40 و60 مليار دولار أميركي.
وليست المرّة الأولى التي يُثير فيها الرئيس بشار الأسد هذا الأمر، فقد سبق له أن صرّح في تشرين الثاني من العام 2020 أن للأزمة السورية»سبباً آخر لا أحد يتكلم فيه، وهو أموال السوريين المودعة في لبنان»، مُضيفًا إن «ما بين 20 مليارًا إلى 42 مليارًا من الودائع فقدت في القطاع المصرفي اللبناني الذي كان نشطاً وكان لديه ودائع بالعملة الصعبة تزيد عن 170 مليار دولار».
عملياً، هناك إستحالة لمعرفة قيمة أو نسبة الودائع في المصارف اللبنانية نظرًا إلى أنه لا يوجد إحصاءات عن الودائع بحسب الجنسيات، وجل ما يوجد كإحصاءات رسمية للودائع في المصارف اللبنانية هي إحصاءات بحسب التصنيف: «مُقيم»أو «غير مُقيم»، وبحسب العملة:»ليرة لبنانية» أو «عملة أجنبية». وتُشير أرقام جمعية المصارف إلى أنه وفي تاريخ أيار 2021، بلغت قيمة الودائع بالعملة الصعبة للمقيمين 73.5 مليار دولار أميركي (منها أكثر من 20 مليار دولار أميركي تمّ تحويلها من الليرة إلى الدولارفي الفترة التي تلت إنتفاضة تشرين الأول 2019) ولغير المقيمين 27.3 مليار دولار أميركي (موزّعة على كل الجنسيات).
المعلومات والتصاريح السياسية الموجودة على مواقع وسائل إعلامية ومكاتب دراسات، تُشير إلى أن المتموّلين السوريين وعند بدء الأزمة، قاموا بنقل مصالحهم إلى الدول المجاورة لسوريا ومنها لبنان ليُعاودوا نقلها من لبنان إلى تركيا ومصر مع تردّي الوضع الأمني في الأعوام 2013 و2014. وبحسب مصادر مصرفية رفيعة نقلتها بعض وسائل الإعلام، فإن أغلبية الأموال العائدة للسوريين المتموّلين (وهم أفراد) تم إخراجها من لبنان في فترة ما بعد بدء إنتفاضة 17 تشرين الأول 2019 حيث تم تحويل ما يزيد عن 6 مليار دولار أميركي.
على كل الأحوال وبغضّ النظر عن حقيقة الواقع، تواجه المصارف اللبنانية مُشكلتين:
– الأولى: تتمثّل بعدم وجود دولارات لإعطاء المودعين أموالهم سواء كانوا لبنانيين أو سوريين أو من جنسيات أخرى. وفي حال وُجدت الأموال، لا يوجد أي قيود على الودائع سواء كانت للسوريين أو لغيرهم نظرًا إلى أن الدستور اللبناني يضمن للمودع حقّه؛
– والثانية: مُشكلة قانون قيصر والذي يمنع في حال توافر الأموال من تحويلها إلى الداخل السوري بسبب هذا القانون وسيقتصر التحويل إلى مصارف أخرى إلا إذا تمّ التوافق بين الأميركيين والسوريين على هذه النقطة.
الجدير ذكره أن التعامل المصرفي بين لبنان وسوريا توقّف بعد بدء الحرب، خوفًا من العقوبات،يضاف إلى ذلك إصدار مصرف لبنان تعاميم منع من خلالها أي تواصل بين المصارف اللبنانية وفروعها السبعة في سوريا ومنع أي عملية جمع للميزانية العمومية.
تصريح الرئيس الأسد سيكون له تداعيات على العلاقة البينية بين الدولتين اللبنانية والسورية وعلى القطاع المصرفي اللبناني. فعلى صعيد العلاقة، تُشكل سوريا معبراً مُهمًا للبنان بإتجاه الدول العربية، كما أن هناك محادثات لجرّ الغاز والكهرباء من الأردن إلى لبنان عبر سوريا. وبالتالي،يتوجّب الإنتظار لمعرفة إذا ما كان هذا الملف – أي ملف الودائع – سيكون له ترجمة سياسية أو إقتصادية على الأرض. أمّا على صعيد القطاع المصرفي اللبناني، فإن هذا الأمر سيُشكّل ضغطا إضافيا عليه خصوصًا من البوابة الأميركية.
المواطن متروك وحيدًا
في هذا الوقت، يتخبّط المواطن اللبناني في أزمة مُتعدّدة الأبعاد هي الأسوأ في تاريخ لبنان تمنعه من الحصول على أبسط الحاجات الأساسية من طعام ومياه وكهرباء وأدوية ووقود ناهيك عن ذل الطلب ومذلة الانتظار… ويمتنع مصرف لبنان عن فتح الإعتمادات بشكل عشوائي نظرًا إلى شح الدولارات لديه من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب التهريب والإحتكار الذي يتفنن التجار في ممارسته، من صغيرهم إلى كبيرهم، كل على هواه، وبحسب مقدرته ومستواه. وبالتالي يتحمّل المواطن اللبناني نتيجة هذا الشذوذ في ظل إهمال السلطات الرسمية وتقاعسها عن القيام بواجبها لمنع الدمار الناتج عن هذا الإحتكار فضلاً عن التهريب المنظم.
وفي هذا الواقع قدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف نسب الأسر اللبنانية التي لا تجد ما يكفي من المال لشراء الطعام خلال الشهر الجاري بـ 77%. هذا الرقم أتى ضمن مقال نشرته صحيفة التايمز البريطانية بعنوان «المواد الغذائية والأدوية تنفد في لبنان وسط إنهيار الاقتصاد»، وهو يأتي بعد أسبوع على نشر اليونيسف أرقامًا صادمة أخرى منها أن 30% من أطفال لبنان ينامون وبطونهم فارغة!
هذا الواقع يؤكدّ فقدان الدولة اللبنانية السيطرة على ديناميكية الفقر في لبنان وهو ما يجعل أرقام العام 2021 (طبقًا لحساباتنا) أكثر سوءًا من العام 2020 (أرقام البنك الدولي) مع إرتفاع نسبة «الفقر المدّقع» إلى 30% لتتخطّى بذلك نسبة «الفقر العام» في لبنان الـ 70%، وتبلغّ نسبة «أسفل الطبقة المتوسّطة»الـ 21.6% ونسبة «أعلى الطبقة المتوسّطة» 3.2%. والملفت من خلال الحسابات التي قمّنا بها أن نسبة العائلات الغنية إرتفعت من 5 إلى 5.2% وهو ما يُمكن تبريره بالأرباح الطائلة التي حقّقها المستفيدون من الأزمة من تجار، وصرافين ومصرفيين ومهرّبين حققوا أرباحًا تتعدى مئات مليارات الدولارات.
هذه الديناميكية تُظهر مدى عمق الأزمة إقتصاديًا وإجتماعيًا حيث تراجعت الطبقة المتوسّطة التي كانت مُهيمنة على المجتمع اللبناني من 57.1% في العام 2019 إلى 24.8% في العام 2021 (بحسب توقّعاتنا). وهذا يُظهر أيضًا ضعف السياسات الحكومية التي جعلت المجتمع اللبناني في وضع مُزرٍ بعد أن كان مزدهرًا نسبة إلى كونه دولة غير نفطية – كما ورد في تقرير صحيفة التايمز البريطانية.
التجّار والضرب بيدٍ من حديد
التبرير الاقتصادي لهذا التراجع الكبير يكمن في ضرب الليرة اللبنانية مع تفشّي السوق السوداء التي عجزت السلطات اللبنانية عن وقفها، بل ساهمت إلى حد كبير بتسريع هذا الانهيار إن من خلال بعض الإجراءات الارتجالية غير المحترفة، أو من خلال الإصرار على عدم القيام بالواجب الوطني والوصف الوظيفي المناط بها.كل ذلك سمح بعملية نقل للثروات من الطبقة المتوسّطة والفقيرة إلى مجموعة مؤلفة من مستفيدين على صلة بالسلطة القائمة، وأصحاب نفوذ نُقدّر عددهم بـ 8000 شخص إستطاعوا الإستفادة من لعبة الدولار وآلية الدعم التي أقرّتها حكومة الرئيس حسان دياب فإستفادوا بشكل كبير مع تقديرات بأرباح تتخطّى عدّة مئات الملايين من الدولارات. من جهتنا قمنا بتقدير هذه الأرباح من خلال نماذج إقتصادية أوصلت إلى نتيجة أن أرباح التجار (وحدهم) تتخطّى الـ 600 مليون دولار أميركي.
من هذا المنطلق يتوجّب على وزارة المال ووزارة الاقتصاد والتجارة بالتعاون مع مصرف لبنان، التأكّد من شرعية هذه الأرباح وأنها لا تأتي من المال العام وإستعادة الأرباح غير القانونية وملاحقة المخالفين؛ على مثال الضريبة على القيمة المضافة التي يدفعها التجار على سعر الصرف الرسمي ويدفعها المواطن على سعر السوق السوداء، والفارق بين سعر الدولار عند الشراء وسعر الدولار عند المبيع هي من بين النقاط التي حققت هذه الأرباح الطائلة!
ويبقى السؤال: هل ستتمكن الوزارات المعنية من القيام بهذه المهمّة أم أن بعض أصحاب النفوذ سيمنعون هذا الأمر؟ الجواب هو عند القضاء اللبناني. لكن عمليًا هذا التحقيق إذا ما تمّ، سيؤدّي أغلب الظن إما إلى إنكفاء رأس المال في وقت يحتاج لبنان إليه. من هنا ضرورة القيام بهذا التحقيق بشكلٍ حرفي وبمعايير علمية.
الغاز المصري والكهرباء الأردنية
بعيدًا عن الإستخدامات السياسية لموضوع إستجرار الغاز من مصر إلى لبنان، هناك فائض في الغاز الذي يتم إستيراده من مصر إلى الأردن والمستخدم في إنتاج الكهرباء. وبُعيد إندلاع الأزمة في لبنان ومع بدء إنخفاض الإحتياطات في مصرف لبنان، قام البنك الدولي بالإتصال بالمسؤولين اللبنانيين لتشجّيعهم على إستيراد هذا الفائض على أن يقوم البنك الدولي بدفع الكلفة – على شكل قرض مُيسّر – بهدف إستخدام الإحتياطات من العملات الأجنبية الموجودة في مصرف لبنان لتمويل الإستيراد.
هذا الغاز الذي يُمكن أن يُستخدم في توليد الكهرباء (في دير عمار)، يمر عبر أنبوب من مصر إلى لبنان مرورًا بالأردن وسوريا. وفي الماضي كان هناك رفض سوري لهذا الأمر، إلا أن الاجتماع الذي حصل بين وفدين أردني وسوري أنتج قبولاً سوريًا وبالتالي لم يعد هناك من مُشكلة خصوصًا أن الأميركيين قبلوا إستثناء الغاز من قانون قيصر.
الأردن الذي يُنتج فائضًا في الكهرباء يفوق حاجاته الداخلية أعرب عن إستعداده لبيع الكهرباء إلى لبنان في الاتصالات التي تمّت بين الجانبين الأردني واللبناني. وبحسب المعلومات، هناك قطعة من أنبوب الغاز (في درعا) طالها الضرر نتيجة الحرب السورية وبالتالي فهي بحاجة إلى عدة ملايين من الدولارات لإصلاحها وهو ما ستقوم به السلطات السورية.
التعقيدات السياسية الداخلية والإقليمية التي منعت هذا المشروع من بلوغ خواتيم سعيدة للبنان، تتلاشى اليوم تحت واقع الكارثة الاجتماعية التي يواجهها لبنان. وبالتالي من المتوقّع أن يأخذ هذا المشروع طريقه إلى التنفيذ في المرحلة المقبلة.
صندوق النقد
حصة لبنان من حقوق السحب الخاصة أو زيادة إحتياطي صندوق النقد الدولي تبلغ 860 مليون دولار أميركي. هذه الحصة من المفروض أن يتمّ تحريرها في أيلول، إلا أنه وفي ظل حكومة تصريف أعمال، من شبه المستحيل الإستفادة من هذه الأموال. من هنا يأتي إعتذار الرئيس الحريري والتعقيدات التي تطال تكليف وتشكيل حكومة جديدة، ليؤخّر تاريخ الإستفادة من هذه الأموال إلى أجل غير مُسمّى. وبإعتقادنا هذا الأمر لعب دورًا في إرتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء التي تعمل خارج أي سيطرة رسمية.
التخمين العقاري على سعر السوق السوداء
من الواضح أن خزينة الدوّلة تخسر الكثير من المال نتيجة التلاعب بين سعر العقار المقوّم بالدولار الأميركي عند الشراء والتسجيل. وبالتالي طرح وزير المال غازي وزني إجراءً جديدًا ينصّ على تقييم العقار بالليرة اللبنانية عملاً بالقوانين اللبنانية المرعية الإجراء وهو ما سيسمح بتسجيل العقارات بحسب قيمتها الحقيقية ومنع الإستفادة من فارق سعر صرف الدولار الرسمي المنصوص عليه في عدة مراسيم وبين الدولار في السوق السوداء وهو ما يؤمّن ربحًا على حساب الدولة اللبنانية وبالتالي يُمكن إعتبار هذا الربح مخالفة جزائية وإحتيالاً على المال العام. عمليًا نجاح هذه العملية سيؤدّي إلى تضاعف مداخيل الخزينة العامة نسبة إلى عدد العمليات العقارية المسجّلة.