ضاق الجمع ذرعاً، ولم يضق الجميع ذرعاً. والجمع، هنا، هو من يقف في صف المظلوم الذي تجري محاولة سفك دمه هذه الأيام. ومن يراد له الموت بكل الطرق، قتلاً أو جوعاً أو عطشاً أو غيلةً إن قدر الظالمون. والجمع، هنا، هو من ضاق ذرعاً بلعبة كبيرة يتشارك فيها لاعبون باتوا أكثر شراكة في كل ما يقومون به، من داخل السلطة وخارجها، ومن داخل مؤسسات الدولة وخارجها، وكل ذلك برعاية خارج يريد مقتلةً كبيرة في هذه البلاد.
ما فعله رياض سلامة في الأيام القليلة الماضية ليس نتاج أفكاره الشيطانية فحسب. بل هو، في هذه اللحظة، تلميذ نجيب ينفّذ أجندة فريق تقاطعت بين أطرافه المصالح بصورة عجائبية لا نتيجة لها سوى تدمير الهيكل. وغاية من يريد التدمير ليست إعادة بناء دولة عادلة وقادرة، بل أن يحكم أهل الغاب العباد من جديد، باسم الطائفة والمذهب والقبيلة… وبرعاية داخل وخارج شريكين في السفك، وبتواطؤ مع سارقي غضب الناس من كل ما يُسمّى ثورة وانتفاضة وحراكاً مدنياً، بكل فروعه السياسية والنقابية والحقوقية والإعلامية.
قرر تحالف الحكم الذي أمسك بالبلاد منذ ثلاثين عاماً قيادة أكبر انقلاب في تاريخ لبنان. وهو تحالف يجمع، في تقاطع للمصالح، الأقوى بين ممثلي الطوائف، ويشاركه تنفيذيون يسعون إلى مناصب ومكاسب. تحالف يجمع نبيه بري ووليد جنبلاط وسعد الحريري وسليمان فرنجية ونادي رؤساء الحكومات السابقين، ومعهم البطريرك الماروني بشارة الراعي ومن معه من حلفاء في المرجعيات الدينية الأخرى، وأهل التطبيل والتزمير من وسائل إعلام تديرها وتموّلها الولايات المتحدة والسعودية والإمارات، وخصوصاً ثلاثي “الجديد” و”المؤسسة اللبنانية للإرسال” و”مر تي في”، وحشد من المواقع الإلكترونية والصحف والكتبة الذين تموّلهم سفارات أميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وسويسرا وجمعيات وحوش الرأسمالية المنتشرة في كل الأرض.
وعلى الأرض، هناك حشد السارقين الكبار، في القطاع المصرفي والتجاري بكل صنوفه، ومافيا المحروقات ومشتقات النفط، وكارتيل الأدوية والمواد الغذائية، وإلى جانبهم جيش من الرعاع الذين لا يعرفون من الاحتجاج سوى قطع الطرقات والسطو على مقدرات المواطنين العاديين… كل هؤلاء يعملون على هدف واحد: عزل المقاومة، والخطوة الأولى تكون بإطاحة ميشال عون وتياره، أما الأدوات فهي كل ما تصل إليها أفكارهم السوداء وأياديهم وفتنهم المتنقلة والمعمول عليها ليل نهار. ويتكل هؤلاء على قوى تحنّ إلى أيام الجنون الدموي بقيادة “القوات اللبنانية” وبعض الفاشيين الذين يفكرون بالتقسيم ورسم حدود الولايات بالدم فقط. ومعهم صمت قاتل تمارسه مؤسسات أمنية وعسكرية وقضائية وحقوقية، باتت في قلب المؤامرة ومن أبرز أدواتها العاملة من دون توقف على الخراب الكبير.
عندما بادر رياض سلامة إلى رفع كل الدعم عن المشتقات النفطية، لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه. استبق ذلك باجتماعات تفصيلية مع الرئيس المكلف نجيب ميقاتي لمناقشة خطط المستقبل. كما التقى كل من يمكن أن يكون شريكاً في هذه العملية في عالم المال والأعمال. وهو حصل على غطاء مباشر لخطوته من بري وجنبلاط والحريري والراعي قبل كل الآخرين. وعندما قصد قصر بعبدا لإبلاغ المجلس الأعلى للدفاع، كان يعرف أن حسان دياب بات أسير الخوف من السجن، وأسير ترهيب يومي يُمارَس عليه باسم حفظ حقوق وصلاحيات أهل السنة، وفي مكتبه من يعمل ليل نهار على هذه الخطة، من موظفين ومستشارين يبحثون عن أدوار مستقبلية.
عندما سارع رياض سلامة إلى إعلان رفع الدعم، لم يكن ينتظر موافقة من هم في الحكم اليوم. بل تصرف على أساس أن ميقاتي رئيس فعلي للحكومة، وأن القوى المهيمنة على المجلس النيابي قد منحته الثقة مسبقاً، وعلى أساس أن جدول أعمال الحكومة قد بُتّ ولا حاجة لانتظار موقف أحد. يكتفي سلامة، ومن خلفه كل الحلف، بصمت حزب الله الملزَم بصمت من يريد تجنب الانجرار إلى فتنة. ويستند إلى أن الرئيس عون لا يمون على أحد في الدولة. لكن رهانه الأكبر أن أحداً في شارع 17 تشرين لن يتحرك ضده، وأن من يريد مخاصمته هو فريق يتعرض لأبشع أنواع الترهيب، بقيادة التيار الوطني الحر.
عملياً، باشر سلامة تنفيذ خطة تقضي بالآتي:
– رفع الدعم وتحرير العملة بصورة كاملة وفق شروط كل المؤسسات الدولية وشروط التجار والفاسدين والمحتكرين.
– المسارعة إلى وضع خطة لزيادة كل أنواع الضرائب والرسوم، خصوصاً الجمركية منها وما يتصل بالعمليات العقارية، ودفع كل مؤسسات الدولة إلى البحث عن سبل لرفع مداخيلها ولو على حساب الناس داخل لبنان وخارجه.
– وعد الناس بزيادة الأجور ضمن سلة لا تفي بغرض مواجهة مصاعب العيش.
– تفاهم أولي مع شركات عالمية لبيعها المرافق المنتجة في لبنان والمتصلة بحياة الناس، من كهرباء وهاتف ومياه وطرقات وإنترنت ومطار ومرفأ وريجي وغيرها.
– إعادة تخمين موجودات المصارف اللبنانية لمنع إعلان إفلاسها ولتعويم غالبيتها ضمن خطة إنعاش للمنظومة المالية اللصيقة للمنظومة السياسية الحاكمة.
– درس قانون للانتخابات وإدارة عملية انتخابية ترضي الخارج بإفساح المجال أمام عدد من منتجات الغرب المسماة “مجتمع مدني”، وجلّهم ممّن استقالوا من المجلس النيابي، للحديث عن تبدل وتغيير وتنويع. علماً أن بين رموز الجماعات التي تدعي النطق باسم قهر الناس، من باشر العمل على الانتخابات، وأعدّ لها صناديق تمويل من الداخل والخارج، وعنوان عملها تدمير التيار الوطني الحر ومحاولة عزل حزب الله.
– منح المؤسسات العسكرية والأمنية هامشاً لإدارة ذاتية، لكن شرط البقاء ضمن التحالف الذي ترعاه الولايات المتحدة، بما يجعل هذه القوى صامتة عن السارقين والمحتكرين والمجرمين، بذريعة عدم الاصطدام بالناس وبالشارع.
عملياً، ما يجري منذ أيام هو إدخال البلاد في موجة جديدة من الضغط الأقصى على الشارع ليكون انفجاره في وجه ميشال عون وتياره وفي وجه حزب الله. ومسموح لهؤلاء باستخدام كل ما يقع بين أيديهم، من جريمة المرفأ، إلى العنوان العام للأموال المنهوبة أو المهربة، وصولاً إلى الصمت عن جرائم الفتنة المتنقلة بين منطقة وأخرى.
ثمة لحظة قاسية يعيشها لبنان. وثمة حاجة إلى مبادرة تقلب الطاولة في وجه هذا التحالف الذي لا يخشى الفوضى لاعتقاده بأن الفوضى تعيد إنتاج العصبيات التي تطيل في عمر هذه الزعامات، ومعها كل أدواتها في الدولة والقطاع الخاص.
ليس غريباً أن ينتفض التيار الوطني الحر، وأن يذهب بعيداً في معركة الدفاع عن نفسه، كما أنه ليس منطقياً تركه وحيداً.
مسؤولية المقاومة، اليوم، ليست في النزول إلى الشارع إلى جانب الغاضبين الحقيقيين. بل في استمرار تفادي المواجهة والأزمة الكبرى. لكن المقاومة التي من حقها وواجبها عدم الانجرار إلى الفتنة الكبرى، لا يمكنها أن تعارض احتجاجاً صار خياراً وحيداً وإلزامياً أمام التيار الوطني الحر.
أقل الكلام، إعلان الرفض الحقيقي لكل ما يجري، وهو إعلان يؤسس عليه لمن يريد تحقيق توازن مع المجرمين الذين لا يردعهم شيء!