كتبت صحيفة “الأخبار” تقول: الاحتكار في زمن الجوع جُنحة في القانون اللبناني! الاحتكار الذي يتسبب بارتفاع الأسعار ويُهدد حياة الناس ويتسبب بإذلالهم عقوبته مخففة لا تتجاوز السجن لأشهر قليلة، في حال قرر القاضي التشدد في الحكم. ورغم ذلك، لم يُحرك المجلس النيابي ساكناً لتعديل قوانين تحمي المتلاعبين بالأمن الاجتماعي
أذِلّ عشرات آلاف اللبنانيين على محطات الوقود. توفي مواطنون مرضى أثناء انتظارهم الدور في طوابير السيارات. نُقل آخرون إلى المستشفيات جراء أزمات قلبية واختار آخرون سحب السلاح لإطفاء غضبهم برصاصات أطلقوها في الهواء أو على ماكينات تعبئة الوقود. وهناك من تعرض للضرب على أيدي مدنيين أو عسكريين جراء خلاف على أفضلية التعبئة، قبل أن يتطور إلى جرائم قتل كان سببها تعبئة البنزين أيضاً. ناهيك عن المآسي الناجمة عن غياب الكهرباء في بعض المستشفيات والمراكز الطبية لفقدان المازوت بسبب الاحتكار ورفض محطات تسليمه على السعر الرسمي مع ما يستتبع ذلك من تهديد لحياة المرضى، الذين يحرمهم المحتكرون الأدوية أيضاً. رغم كل ذلك، يتبين أنّ المحتكر الذي يرتكب هذه الجرائم لن يُعاقَب عقاباً يليقُ بالجريمة التي اقترفتها يداه. فالقانون اللبناني، حتى في زمن الجوع والحرب والطوارئ، يعتبر الاحتكار جنحة وليس جناية!
يوم أمس، ضُبط أحد مالكي محطات الصقر متلبِّساً بنحو مليوني ليتر بنزين داخل خزانات مطمورة تحت الأرض في حوش الأمراء بزحلة. عثر فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي على البنزين المخبّأ ليوقف مارون الصقر، شقيق القيادي في القوات اللبنانية إبراهيم الصقر. وقال مارون خلال استجوابه أمام محققي فرع المعلومات بأنّ كميات البنزين تعود له وليست لشقيقه، زاعماً أنّه خزّنها منذ ثلاثة أشهر، علماً أنّ المعلومات لدى المحققين تفيد بأنّها موجودة في الخزانات منذ أكثر من ثمانية أشهر. وتلفت مصادر في قطاع المحروقات ومصادر قضائية إلى أنّ طريقة التخزين تُشير إلى أنّها خُزِّنت “استراتيجياً” وليس لتُستخدم لتصريف قريب. فطريقة الطمر لا توحي بسهولة التخزين، الذي يُعتقد أنه امتد لفترة طويلة، كما لا تدل على قرب انتشال ما خُزِّن. وأشار القضاء بتسليم المضبوطات إلى منشآت النفط التي من المنتظر أن يبدأ عاملون فيها “استخراج” البنزين من خزانات الصقر المطمورة اليوم. ولم تستبعد مصادر معنية أن تكون الكمية مختلفة عن تلك التي أعلنت عنها قوى الأمن الداخلي أمس، والتي استندت إلى إفادة مارون الصقر. وقد أعطى النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات إشارة بتوقيف مارون، فيما استُدعي شقيقه إبراهيم الصقر الذي لم يحضر إلى التحقيق لاستجوابه في هذا الملف على اعتبار أنّ الخزانات مطمورة في أرض تعود ملكيتها للقيادي القواتي. وتبين أنها 38 خزاناً ممتلئاً تُقدر سِعة كلّ خزّان بحوالي 50 ألف ليتر من البنزين، بحسب بيان الأمن الداخلي. وبعدَ مداهمة للجيش الأسبوع الماضي في منطقة رياق حيث تبيّن وجود خزانات مطمورة تحت الأرض في ملكية تعود لمارون الصقر أيضاً وعثر فيها على نحو 400 طن من مادة المازوت، ظهر أن في حوزة الصقر كمية كبيرة من المحروقات المخزّنة، ما يشير إلى أنه أحد أكبر المحتكرين. كذلك أعلن الجيش يوم 19 آب ضبط 150 ألف ليتر من البنزين “تمّ تخزينها في محطة قيد الإنشاء في بلدة البربارة- جبيل”. وأظهرت الصور التي نشرتها المؤسسة العسكرية أن المحطة تابعة لسلسلة محطات الصقر!
غير أنه مع توقيف الصقر على ذمة التحقيق، تبيّن أن القانون اللبناني يعتبر جرم الاحتكار جنحة، وهي من أخفّ الجرائم عقوبة. بالتالي القانون يحمي المحتكر بعقوبة مخففة لكونها جُنَح لا تُوجِب التوقيف. فالعقوبة لا تجيز التوقيف الاحتياطي إذا أراد القاضي تطبيق النص على حرفيته إذا كانت العقوبة لا تتجاوز السجن لسنة واحدة. خلاصة الأمر أن النصوص القانونية، التي لم يجتمع مجلس النواب لتعديلها رغم حدة الأزمة، لا تجيز توقيف أي محتكر للبنزين، مع أنّ الجرم في هذا الظرف الحسّاس يُفترض أن يكون جناية.
وهذه المواد يجب أن تشدّد وتعدل في مجلس النواب لتُصبح جريمة الاحتكار جناية، لأنها جرائم تمس بالأمن الاجتماعي، ما يوجب وجود تدابير زجرية قاسية لردع المحتكرين.
والقانون يميز بين الاحتكار الذي يرمي إلى التلاعب بالأسعار في السوق والذي يرمي إلى تحقيق أرباح، لكنه لا يلحظ حجم الأذى الناجم عن الاحتكار ليعتبر الجرم من نوع الجنحة. فعلى سبيل المثال، إذا حجز المحتكر البضاعة عنده ليتأثر سعر السوق، أي أنه لا يقوم ببيع بضاعته على السعر المنخفض بانتظار غلائها، فتكون عقوبة هذا الجرم تبعاً لقانون الاحتكار (جنحة لا توجِب التوقيف). أما المادة 685 من قانون العقوبات فتنطبق على المحتكر عندما يكون قادراً على التأثير في سعر السوق عبر ضبط البضاعة للتلاعب بالعرض والطلب. هذه المادة تتراوح العقوبة فيها بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة مالية. وقد حددت المادة 43 من المرسوم الاشتراعي رقم 37/38 عقوبة جرائم الاحتكار بالغرامة من عشرة ملايين إلى مئة مليون ليرة، وبالسجن من عشرة أيام إلى ثلاثة أشهر، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وعند التكرار تضاعف العقوبة.
تجدر الإشارة إلى أنه بعد توقيف صقر، سارعت “القوات” اللبنانية أمس، بعدَ انفضاح أحد رجال الأعمال الممولين لها إلى إصدار بيان تتبرأ فيه من الرجل، فقالت: “إذا صحّ ما يُذكَر في بعض وسائل الإعلام عن تاجر من هنا أو صاحب محطّة من هناك ينتمون للقوات واكتشفت لديهم مخازن من المحروقات فهذا شأنهم وشأن القوى الأمنيّة والقضائيّة المعنيّة ولا علاقة للقوات بهم”. وأضاف البيان: “تتحدّى القوات أياً من الأقلام، أو وسائل الإعلام، أو وسائل التواصل الاجتماعي، في إثبات واقعة واحدة لتدخلها مع أيّ من الأجهزة الأمنيّة لتغطية أي كان”.