أمام الأوضاع المنحطّة التي بلغتها الدولة وأوصلت من خلالها اللبنانيين إلى حضيض الحضيض، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وحياتياً، يبقى الأكيد أنّ تشكيل “أي حكومة” أفضل من عدمه، أقله لإيجاد قناة رسمية يمكن التعاطي معها دولياً للعمل على وضع البلد على سكة الإنقاذ المنشود، بعد تلمّس خطوات جدية حكومية نحو إنجاز إصلاحات هيكلية وبنيوية بالتعاون مع برامج صندوق النقد الدولي.
وإذا كان على المقياس الإصلاحي، من المبكر الحكم على أداء الحكومة الوليدة قبل اتضاح “خيرها من شرّها” في إطار تنفيذ المهمات المحددة التي وضعها رئيسها لها، بما يشمل الإصلاح والتواصل مع صندوق النقد وصولاً إلى التزام إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، غير أنّه على المقياس الاستراتيجي، فإنّ شكل تشكيلها وطريقة “دربكة” الأمور خلال الساعات الأخيرة والإسراع في إعلان ولادتها “بأحسن الممكن” كما قال رئيس الجمهورية ميشال عون، جعل “الكبير والصغير والمقمّط بالسرير” على حد تعبير ميقاتي، يربط ولادتها باتصال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي… وهو ما رأت فيه مصادر ديبلوماسية مخضرمة “عاملاً مفصلياً” أخذ بموجبه “حزب الله” قرار تأليف الحكومة لتقديمه على “طبق مفاوضات رئيسي” مع المجتمع الدولي في إطار تكريس الورقة الحكومية اللبنانية ضمن “باقة أوراق إيران في المنطقة”، بشكل بادر من خلاله “حزب الله” إلى سحب ورقة “الثلث المعطل” من يد رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، توكيداً أمام من يعنيهم الأمر في الداخل والخارج على أن هذا الثلث هو “لطهران فقط، لا لجبران ولا لسواه من القوى السياسية في البلد”.
صحيح أنّ الصورة التذكارية لحكومة ميقاتي بعد غد الاثنين في قصر بعبدا ستضع حداً لفراغ حكومي طال أمده تحت وطأة تجاذب الحصص على امتداد 13 شهراً بين العهد وتياره والقوى السياسية المشاركة فيها، لكن في المضمون، كما أخرج ميقاتي مرسوم تشكيلتها “بدموع العين” من بعبدا، كذلك من المتوقع أن تكون قراراتها “كل مصّة بغصة” داخل مجلس الوزراء تحت تأثير تباين التصورات الرئاسية والسياسية إزاء أجندة المفاوضات مع صندوق النقد.
وعند هذا المحك، سينكشف المستور في “بازل” الحصص الوزارية مع تموضع كل وزير خلف خندق وجهة نظر الجبهة الرئاسية أو السياسية التي نصّبته في وزارته، لتبدأ تالياً لعبة “شد الحبال” على حلبة الإصلاح، بدءاً من “الكباش” الواضح بين عون وميقاتي حول من منهما يمثل لبنان في المفاوضات مع صندوق النقد والبنك الدولي والمجتمع الدولي عموماً، مروراً بالتناتش المرتقب لسلة التعيينات والصراع القادم على المواقع المالية الحساسة وفي طليعتها حاكمية المصرف المركزي بعد إبداء عون عزمه على وضع “تطيير” رياض سلامة على رأس جدول أعمال الحكومة الجديدة.
بالانتظار، وعلى أمل بأن تصدق آمال ميقاتي بأن تعمل حكومته بروح جماعية لتأمين المطلوب وإعادة استنهاض البلد، بدا الرئيس الفرنسي كمن يتنفس الصعداء مساءً في معرض ترحيبه بتشكيل الحكومة بعد تقهقر مبادرته على أعتاب تناحر القوى السياسية اللبنانية، فشدد على كونها “خطوة لا غنى عنها من أجل إخراج لبنان من الأزمة العميقة التي يجد نفسه فيها”، مع الإعراب عن تحسبه لدقة المرحلة الحكومية المقبلة عبر التأكيد أن الوقت حان للشروع في الإصلاح والتذكير بـ”ضرورة امتثال السياسيين للالتزامات التي قطعوها من أجل السماح بتنفيذ الإصلاحات اللازمة وتمكين المجتمع الدولي من تقديم المساعدة الأساسية له”.كذلك، توالت التعليقات الأممية والدولية والعربية المرحبة بتشكيل الحكومة اللبنانية، بحيث وصفها الأمين العام للأمم المتحدة بخطوة “بالغة الأهمية”، وسط إشارة المنسقة الخاصة للأمم المتحدة لشؤون لبنان جوانا فرونتسكا إلى أنها مجرد “خطوة أولى” يجب أن تليها “خطوات سريعة وشجاعة من أجل المصلحة العامة لبدء الإصلاحات الاقتصادية والمرتبطة بالحوكمة والتحضير للانتخابات في موعدها”.
كما رحّب الاتحاد الاوروبي بتشكيل الحكومة باعتبارها “مفتاح معالجة أزمات لبنان وإنجاز الإصلاحات التي طال انتظارها”، مقابل إيلاء الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد جوزيب بوريل، مسألة إنجاز الانتخابات النيابية العام المقبل أهمية استثنائية بوصفها “مهمة أساسية من مهام الحكومة الجديدة”.
أما عربياً، فكان تأكيد من القاهرة على وجوب أن تحقق حكومة ميقاتي “الإصلاحات الاقتصادية” المطلوبة، مع تشديد مصري صريح على وجوب أن تنأى الحكومة بلبنان “عن الصراعات الإقليمية”، بالتوازي مع إبداء الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط تعويل الجامعة على أن تساهم الحكومة اللبنانية الجديدة “في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية والإنسانية التي يواجهها الشعب اللبناني” وأن تعيد للبنان “عافيته وتوازنه”.