يقف لبنان أمام مفترق خطير سياسياً وأمنياً وقضائياً. هو اليوم الفاصل بين سيطرة السياسة على القضاء وبين أن يكون لبنان بخير لأن قضاءه بخير. ثمّة تجربة واعدة كان بطلها المحقق العدلي في تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، وثمّة متهمون التقت مصالحهم لتحويل القاضي إلى المحاكمة بدل أن يخضعوا أمامه للمحاكمة. ثمة منظومة سياسية تتمرّد على قاضٍ غامر وقبِل أن يتولّى هذا الملف الكبير والخطير على رغم كل المحاذير الأمنية والألغاز المحيطة به، وعلى رغم معايشته لما تعرّض له سلفه القاضي فادي صوّان.
اليوم 27 ايلول إمّا أن يكون يوم بدء القاضي البيطار سلسلة جلسات التحقيق التي كان حدّدها لعدد من المدّعى عليهم، أو أن يكون يوم بدء تنفيذ كفّ يده عن متابعة هذا الملف. بعدما تعذر تبليغه نهاية الأسبوع الماضي طلب كفّ يده في الدعوى التي تقدّم بها ضده المدعى عليه النائب نهاد المشنوق أمام محكمة الإستئناف المدنية، قد يكون اليوم هو الموعد المنتظر لتبيلغه عندما يحضر إلى مكتبه. المصادر تقول إن خطة مشتركة تنفذ ضد القاضي البيطار وضد التحقيق لأن ما توصل إليه من خلال متابعاته وتحقيقاته، شكّل تهديدا جدّياً للمعنيين بملف التفجير وبدل أن يهدّدهم يحاولون قلب الطاولة من خلال تهديده. في الواقع تعتبر المصادر المتابعة أنه عندما تصل الأمور بمسؤول وحدة الإرتباط والتنسيق في “حزب الله” الحاج وفيق صفا حدّ الدخول إلى العدلية لإيصال تهديد مباشر للقاضي البيطار، فمعنى ذلك أن البيطار كان يشكل تهديداً جدياً لجهته السياسية. إنها حرب معاكسة من المنظومة التي غطت عملية تخزين نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت ونامت على خطرها حتى حصل الإنفجار الكبير، ومنهم من كان يعلم ويغطي أو كان يسكت ويخاف. وهؤلاء كلهم موضع شبهة ولذلك يرتدّون اليوم على المحقّق والتحقيق.
لا تتعلّق المسألة بنهاد المشنوق أو بعلي حسن خليل أو بغازي زعيتر أو بحسان دياب أو بيوسف فنيانوس وحدهم بل بمنظومة أوسع تريد أن تغطي على ما حصل وأن تطمس الجريمة. وإلا كيف يمكن أن نفهم لماذا “الضابطات” العدلية على أنواعها “تتمرّد” على القاضي البيطار وتمتنع عن القيام بالتبليغات اللازمة، بينما سيكون في استطاعتها أن تسابق الوقت لكي تبلّغه شخصياً ساعة حضوره إلى مكتبه؟
إستطاع البيطار أن يحشر المدعى عليهم في الزاوية بعد تجاوز مسألة الحصانات التي حاولوا أن يتلطّوا بها. هذا الأسبوع حافل بالمواعيد المحددة سابقاً: اليوم موعد مع الضباط القادة العميد كميل ضاهر مدير المخابرات السابق في الجيش اللبناني والعميد جودت عويدات رئيس جهاز الأمن القومي ومساعده العميد غسان غرز الدين، من أجل التثبت من مسألة دور قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، وكان البيطار قد حدد له جلسة للتحقيق يوم غد في 28 ايلول. هل كان مدير المخابرات وقائد الجيش السابقان يعلمان ويقدران أن يفعلا شيئاً ولم يفعلا؟ إذا انعقدت الجلستان يمكن أن يتاح الوقت لكي يصدر القاضي البيطار قراراته بحق هؤلاء الضباط. وإلا يكون الضباط الذين لا حصانات يتمتعون بها قد استفادوا عملياً من حصانات غيرهم.
في 29 أيلول لم يكن هناك موعد لجلسة. في 30 أيلول يوم الخميس موعد جلسة التحقيق مع المدعى عليه النائب علي حسن خليل. ويوم الجمعة أول تشرين الأول موعد التحقيق مع المدعى عليهما النائبين غازي زعيتر ونهاد المشنوق، بينما يوم الإثنين 4 تشرين الأول كان موعد الجلسة مع المدعى عليه رئيس الحكومة السابق حسان دياب، الذي اختار المغادرة إلى الولايات المتحدة قبل أن يقرّر كيف سيواجه عدم مثوله في هذه الجلسة.
إنتظر القاضي البيطار سقوط الحصانات التي كان يتغطّى بها النواب الثلاثة بعد نيل الحكومة الثقة وقبل الدورة العادية لمجلس النواب في 19 تشرين الأول المقبل وحدّد المواعيد. لا يوجد أكثر من 23 يوماً لتأخذ مجريات التحقيق أبعادها القضائية. هذا الوقت سيستخدمه المدعى عليهم من أجل كف يد القاضي البيطار حتى تنتهي المهلة أو حتى استبداله بقاضي تحقيق آخر، وعندها تكون مقتلة العدالة في لبنان عندما يسجل التاريخ أن منظومة فساد حققت نصراً على العدالة.
المصادر المتابعة تقول إنهم سيكونون بانتظاره اليوم لتبليغه وبالتالي إذا تبلغ فهذا يعني أنه سيتوقف عن متابعة التحقيق ولن تكون هناك جلسات في المواعيد المحددة. ولكن تبليغه لا يعني نهاية المطاف. يبقى أن تنتظر محكمة الإستئناف المدنية ردود المعنيين بهذه الدعوى بعد تبليغهم، القاضي البيطار والمدعون الكثيرون ومن بينهم نقابة المحامين وأهالي الضحايا. لا مهلة أمام المحكمة لاتخاذ القرار بدعوى المشنوق، بعد ورود الردود من المعنيين ولكن طالما أن الردود محكومة بمهل قليلة وايام محدودة، فإن هذا يعني أن المحكمة لا يمكن أن تؤجل القرار طويلاً وهي إما أن تقبل الدعوى وتكف يد البيطار أو أن تحكم ببطلان دعوى المشنوق وتردها، وبالتالي يبقى القاضي البيطار في موقعه ويعود إلى متابعة التحقيقات. ولكن هذه العودة مرتبطة أيضا بمآل الدعوى التي قدمها ضده الوزير السابق يوسف فنيانوس للإرتياب المشروع أمام محكمة التمييز، وهي مماثلة للدعوى التي كان تقدم بها زعيتر وخليل ضد القاضي صوان. هذه المحكمة قد يكون من الصعب عليها أن تكرر مضمون ما قررته لكف يد القاضي صوان مع القاضي البيطار، ولكن في هذه المراحل يكون المتهمون المدعى عليهم قد ربحوا الوقت حتى تنقضي مهلة رفع الحصانات في 19 تشرين الأول. هذه اللعبة التي يلعبونها مع الوقت يتقاسمون فيها الأدوار بانتظار ما سيقرره مثلا زعيتر وخليل أو ما سيقدم عليه دياب. أما الخيار الإستراتيجي الذي يريدونه فهو نقل الدعوى نهائياً إلى مجلس النواب حيث لن تتأمن أكثرية الثلثين من أجل توجيه التهمة إليهم، وبالتالي يكونون قد فروا بطريقة سياسية قانونية من وجه العدالة. ولكن إذا لم يتم نقل الدعوى إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وإذا لم يتم كف يد القاضي البيطار فهو سيعود إلى انتظار انتهاء الدورة العادية لمجلس النواب ليعود إلى ملاحقة المدعى عليهم المذكورين.
ما يحصل مع القاضي البيطار أكثر خطورة مما حصل مع القاضي صوان. مع صوان لم تكن التحقيقات قد كونت صورة شبه كاملة تقريباً لبناء القرار الإتهامي، وبالتالي كان يمكن أن يقبل القاضي البيطار أو غيره بهذه المهمة ولم تكن عملية تهديد صوان قد ظهرت إلى العلن بهذه الطريقة. بعد تهديد البيطار وسكوت رئيس مجلس القضاء الأعلى ومدعي عام التمييز اللذين استقبلا وفيق صفا وقت وجه التهديد للقاضي البيطار، وسكوت وزير العدل ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، من سيجرؤ على أن يكون محققاً عدلياً في جريمة المرفأ إلا إذا كان قاضياً من ضمن المنظومة التي تريد من خلاله أن تنظف الملف من كل التهم الموجهة إلى أبطالها، الذين اتهمهم وادعى عليهم القاضي صوان أولاً ثم القاضي البيطار؟
اليوم إما أن يكون موعداً مع أمل بلبنان أفضل أو أنه سيكون يوماً حزيناً في تاريخ لبنان، يوماً تدفن فيها العدالة وينتصر الباطل على القانون. ولكن مهما حصل سيبقى مسجلاً في سجل القاضي البيطار أنه شكل تهديداً لهذه المنظومة وأنه انتصر عليها وأنّ إزاحته أو قبعه عنوان لهزيمتها هي.