“التقيتُ خلال زيارتي أشخاصاً يعتمدون على المنظمات الدولية وغير الحكومية للبقاء على قيد الحياة، وأطفالاً صغاراً حلمهم الوحيد أن يغادروا البلد في أقرب وقت ممكن، ونساء يتحمّلن العنف المنزلي ويقتطعن من وجباتهن لحماية أطفالهن، وشباباً في مقتبل الحياة لا آفاق لحياتهم”… صور مأسوية نقلها المقرر الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان اوليفيه دي شاتر وعكس من خلالها حجم الذلّ “المدقع” الذي يكابده اللبنانيون تحت قبضة سلطة فاقدة لحس المسؤولية، حكمت على شعبها بالموت فقراً وقهراً، وأتخمت جيوبها بالمال العام الحرام تاركةً الناس يتضوّرون جوعاً وعوزاً بعدما نهبت دولاراتهم ودمّرت ليرتهم.
بالجرم المشهود، وثّقت المعاينة الأممية لـ”جهنم” اللبنانية وقائع معيشية مدمية ومبكية في البلد، إلى درجة لم يجد أمامها المسؤول الأممي سوى الوقوف “مصدوماً ومذهولاً” إزاء إجرام الطبقة الحاكمة وإمعانها في إفقار اللبنانيين عن سابق تصور وتصميم، فخلص بعد زيارة ميدانية على مدى 10 أيام للبنان إلى تشخيص حالة “الانفصام عن الواقع على الأرض” التي تمرّ بها السلطة، مع ما يرافقها من عوارض “تقصير في المسؤولية على أعلى مستويات القيادة السياسية”.
وفي معرض تفنيد ارتكاباتها، كال دي شاتر الإهانات للسلطات اللبنانية التي “قامت بتدمير العملة الوطنية وعمّقت أوجه عدم المساواة وخرّبت حياة الناس وأفقرت الملايين”، مشدداً على أنّ “الحكومة اللبنانية خذلت شعبها وتسبّبت بتقاعسها عن مواجهة هذه الأزمة غير المسبوقة بحالة بؤس شديد لدى السكان”، مع الإشارة إلى أنها “أزمة مصطنعة ستحكم على الكثيرين بفقر سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل”.
وإذ أخذ على الحكومة أنها “تضيّع وقتاً ثميناً في التهرّب من المساءلة”، عاب عليها في هذا المجال افتقارها إلى أي “خطة موثوق بها” وأنّ جل ما أطلعته عليه كان خططاً لا تعتمد إلا “على المانحين الدوليين والمنظمات غير الحكومية”، مبدياً “قلقاً عميقاً من أنّ الحكومة لا تأخذ محنة الناس على محمل الجد”، من دون أن ينسى في تقريره الإضاءة على ارتفاع منسوب القلق جراء “العلاقة المعقّدة بين الطبقة السياسية والقطاع المصرفي”، منبهاً في المقابل إلى أنّ “المجتمع الدولي لن يصدق التزامات الحكومة بالإصلاح إلا إذا التزمت بشكل جدي بمبدأ الشفافية”.
وعلى وقع الأجواء الحكومية السوداوية، خرج وزير الإعلام جورج قرداحي على اللبنانيين أمس مزهواً بالانقسام الداخلي الحاصل حيال مسألة استقالته من مجلس الوزراء، فبدا مستعظماً قدره وحجمه في المعادلة الوطنية على اعتبار أنّ الرأي الرافض للاستقالة ذو “أحجام أكبر بكثير” من الرأي المنادي بالاستقالة، في دلالة واضحة على كونه يتسلّح بغلبة كفة “حزب الله” في موازين القوى المحلية، معيداً في الوقت نفسه التأكيد على رفض تقديم استقالته باعتباره موقفاً نابعاً من “كرامة وعزة نفس وتمسك بسيادة البلد”.
وفي سياق محاولته التخفيف من هول تداعيات القطيعة الخليجية جراء تصريحاته “الحوثية” المستفزة للمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، سعى قرداحي إثر لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة إلى التنصّل من المسؤولية الناتجة عن الأضرار التي ألحقتها مواقفه باللبنانيين في الداخل والخارج، ولم يتوانَ في هذا السبيل عن الهروب إلى الأمام باتجاه مهاجمة أفرقاء في الداخل اتهمهم بممارسة “الابتزاز والمزايدة” في قضية استقالته بهدف “تقديم براءة ذمة للسعودية ودول الخليج”، بينما عاد ليضع نفسه في قفص الاتهام ذاته، بحسب مصادر سياسية، حين لجأ إلى المزايدة والابتزاز في تصريحه أمس، سواءً من خلال مزايدته في “حب واحترام السعودية” أو عبر محاولة ابتزازه السعوديين بطلب “ضمانات” لقاء تقديم استقالته.
وبهذا المعنى، أكد قرداحي أنّ أحداً لم يتكلم معه بعد عن ضمانات “لا في الداخل ولا في الخارج”، وأنه لا يزال ينتظر تقديمها إليه “وأنا حاضر”… ليخلص وفق تعبير المصادر إلى أنه “يعرج أمام مكرسحين” في إطار محاولة رفع مسؤولية الشلل الحكومي عن كاهله، انطلاقاً من تشديده على كون الحكومة مشلولة أصلاً “ولم تكن تجتمع قبل أزمة تصريحه” الداعم للحوثيين في مواجهة السعودية.