مع تقديم وزير الإعلام جورج قرداحي استقالته من الحكومة، لا يمكن إغفال عدد من التطورات. قد لا تؤتي هدية لبنان إلى المملكة العربية السعودية أُكلها، لكنها في الداخل قد تؤمّن انطلاق مسار سياسي جديد
المبادرة الخاصة جدّاً التي قام بها وزير الإعلام جورج قرداحي، بالاستقالة من الحكومة لفتح الباب أمام معالجة للأزمة مع السعودية ودول خليجية، تنتظر أن يلاقيها الطرف الآخر، وسط تباين في التقديرات حول ما يمكن أن تقوم به الرياض ردّاً على هذه الخطوة، ووسط مخاوف من استمرار موقفها من دون أيّ تصعيد في الخطوات الإجرائية، مقابل أن تتراجع دول خليجية أخرى عن إجراءات اتخذتها بتجميد العلاقات مع لبنان.
لكن الأمر ظلّ يلقي بظلاله على غياب الاستراتيجية اللبنانية الموحّدة حيال ملفات حساسة أبسط من الاستراتيجية الدفاعية التي يطالب بها خصوم المقاومة. إذ إن «الانهيار» أصاب مواقع رئيسية في البلاد حيال المطالب السعودية والاستجابة الضمنية للضغوط التي جاءت من الأوروبيين أيضاً، علماً بأن الجميع يعرفون أن القدرة على إدخال تحوّلات كبيرة في الموقف السعودي من لبنان ليست في متناول اليد الآن، بل إن الرياض تبدو مستمرة في التصعيد ريثما تتمكّن من تحقيق توازن على أكثر من صعيد.
يقول متابعون للاتصالات إن الاستقالة ستشكّل إرباكاً للسعودية لجهة التعامل معها (هيثم الموسوي)
ومع ذلك، فإن الخروج «الطوْعي» لوزير الإعلام من الحكومة خلط الأوراق من جديد. تكاتف فرنسا مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ترافق مع «قبّة باط» سياسية داخلية جاءت من معظم القوى والمرجعيات. وبينما حاول البعض رمي الكرة في ملعب حزب الله، فإن الجميع يعرفون حقيقة موقف الحزب الذي بقي مصرّاً على احترام قرار قرداحي، مع الاستعداد للوقوف إلى جانبه لو قرّر المضيّ في المعركة. لكنّ الآخرين، جميعاً وبلا أيّ استثناء، كانوا في مكان آخر، وعملوا، كل من جانبه، على ممارسة أشكال مختلفة من الضغط على قرداحي لأجل تنفيذ الاستقالة. ومع ذلك، يتصرّف الجميع على أن الاستقالة أمّنت انطلاق مسار جديد في البلد. استعان ميقاتي بـ«الصديق» الفرنسي على الداخِل، ونجح الرئيس إيمانويل ماكرون في انتزاع «هدية» يدخُل بها على مُضيفه في الرياض.
السؤال عن السبب الذي دفَع القوى السياسية إلى ترك قرداحي «على هواه» يتراجع أمام الاستفسار عن «الثمرة» التي سيجنيها لبنان، وخاصّة أن «المطلوب رضاه» لا «مسامح ولا كريم»، فهل حصل لبنان على ضمانات بأن تدفع هذه الخطوة السعودية إلى أن تُعيد النظر بتصعيدها؟
الإجابة عن هذا السؤال قد تكون في ما قاله قرداحي في مؤتمره الصحافي، ولعلّه المختصر الأهم: «نحن اليوم أمام تطوّرات جديدة، والرئيس الفرنسي ذاهب إلى السعودية بزيارة رسميّة، وفهمت من رئيس الحكومة أنّ الفرنسيّين يرغبون في أن تكون هناك استقالة لي تسبق زيارة ماكرون، وتساعد ربّما على فتح حوار مع المسؤولين السعوديّين حول لبنان»، أي أنها «يُمكن أن تصيب أو تخيب»، علماً بأن ما علّقت به قناة «العربية» السعودية كانَ علامة أولى، قائلة: «في خبر عاجل، غير مهمّ للغاية، وزير الإعلام اللبناني يُقدّم استقالته من الحكومة».
بمعزل عن ذلك، يقول متابعون للاتصالات إن الاستقالة، لا شك، ستشكّل إرباكاً للسعودية لجهة التعامل معها؛ إذا قبلت الرياض الهدية وتراجعت عن إجراءات التصعيد، فسيظهر بأن حجم ردة فعلها على تصريح وزير لا يتناسب وحجمها كدولة. أمّا في حال رفضت المبادرة اللبنانية تجاهها، فيتأكد حينها بأن للمملكة أجندة للانتقام من لبنان، وسيحرِج ذلك أصحاب حملة التهويل على وزير الإعلام والذين سعوا طوال الفترة الماضية إلى تحميله المسؤولية.استقالة قرداحي تريح فرنجية محلياً وخارجياً وانتخابياً
أمّا داخلياً، فإن الجميع يسعون في استثمار الخطوة، كل من وجهة نظره. رئيس الحكومة، الذي يتعرّض للضغط الفرنسي ويواجه الكراهية السعودية، يريد «فك العزلة» التي تواجه حكومته، وقد يسعى إلى استثمار الأمر من أجل إعادة تفعيل الحكومة، ولو أنه يحتاج إلى تسويات أخرى ذات طبيعة سياسية وأكثر تعقيداً ربطاً بمطالب الثنائي الشيعي وتيار المردة بما خص التحقيق في ملف المرفأ.
كذلك، ظهر أن سليمان فرنجية، نفسه، والمحطين به، ولا سيما نجله النائب طوني، يتصرّفون على قاعدة أنه «همّ وأزيح» ربطاً بالمسائل المتعلّقة بواقعهم الانتحابي، من جهة، وحتى بملف الانتخابات الرئاسية، من جهة ثانية، علماً بأن معركة انطلقت حول فرنجية الآن على من يخلف قرداحي، إذ يطمح مسؤولون في التيار نفسه إلى تولّي المهمّة بدلاً من اللجوء إلى صديق كما حصل مع قرداحي.
وتلفت مصادر مطّلعة إلى ضرورة مراقبة ما إذا كانت استقالة قرداحي مجرّدة عن التطورات التي تخصّ ملفات أخرى. وتوقفت المصادر عند تصريح ميقاتي لوكالة «أنباء الشرق الأوسط» في لبنان حول «إصرار الثنائي الشيعي على الفصل بين التحقيق القضائي بانفجار ميناء بيروت والتحقيق مع الرؤساء والوزراء»، وقول ميقاتي: «لدينا في الدستور المجلس الأعلى، وهو محكمة كاملة متكاملة مؤلفة من 8 قضاة من أعلى رتب قضائية، إضافة إلى 8 نواب»، في إشارة ضمنية إلى احتمال اللجوء إلى تسوية تقضي بفصل ملفات التحقيق الموجودة بين يدي المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار، من دون الاضطرار إلى عزله أو تنحيته، علماً بأن ميقاتي كان دائم التأكيد على «عدم التدخّل في القضاء»، لكنه أعطى إشارة على استعداده للتراجع خطوة، إذ لفت إلى أن «ما يقوم به القضاء من دمج محاكمة الرؤساء والوزراء مع التحقيق القضائي أثار تباينات»، مؤكداً أن «الفصل بين التحقيقين ضروري حيث إن للعسكريين محكمة عسكرية وللقضاء هناك تفتيش قضائي، وأيضاً أوجد الدستور هذه المنظومة لمحاكمة الرؤساء والوزراء». وتساءلت المصادر عمّا إذا كان ميقاتي «يقول ذلك من عنديّاته، أو أنه استحصل على تراجع فرنسي عن الدعم المطلق لرئيس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، والقاضي البيطار»، مشيرة إلى أن الأيام المقبلة ستؤكّد ذلك في حال «سجّل عبود خطوة لافتة وخرج حلّ ملف البيطار من القضاء بفتوى دستورية للفصل بين التحقيق وإعطاء صلاحية محاسبة الرؤساء والوزراء لمجلس النواب».
وكان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قد شكر قرداحي على مبادرته، مجدّداً التأكيد على حرص لبنان على إقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية الشقيقة عموماً، ودول الخليج خصوصاً، متمنياً أن تضع الاستقالة حدّاً للخلل الذي اعترى العلاقات اللبنانية ــــ الخليجية. أمّا ميقاتي، فعلّق عليها بالتأكيد أنها «أتت ضرورية بعد الأزمة التي نشأت مع السعودية وعدد من دول مجلس التعاون الخليجي، ومن شأنها أن تفتح باباً لمعالجة إشكالية العلاقة مع الأشقاء في السعودية بعد تراكمات وتباينات حصلت في السنوات الماضية».