تطلّ ذكرى ميلاد كمال جنبلاط هذا العام ولبنان يعيش أسوأ محطات تاريخه الحديث. معاناة شعبه لا تنتهي، ولا تكاد تنتهي أزمة حتى تحلّ أخرى، وقد تحوّل اللبنانيون إلى فريسة للجوع والفقر والبطالة.
تطلّ الذكرى وقد خسر لبنان دوره كجامعة للشرق، ومستشفى للشرق، ومرفأ للشرق، وقد نال الانهيار من كل قطاعاته. تطلّ الذكرى والبلد رهينة وصاية جديدة تقضم ما بقي من وجه لبنان الجميل بعدما كرّسوه ساحة للصراعات، وصندوق بريد للمتخاصمين والمتفاوضين.
لكن كمال جنبلاط فوق كل تلك المشاهد يبقى أكثر من أي وقت صاحب “الحضور الدائم”، في فكره وفي مبادئه، وفي حلمه الذي لو كُتب له النجاح لما تألّم لبنان اليوم.
والحديث عن كمال جنبلاط يوازي، بدلالاته الإنسانية والوطنية والمجتمعية، الحديث عن الجمهورية الفاضلة لما تضمنته مسيرة المعلم الفريد الذي جاء لزمانٍ غير زمانه، ولعالمٍ مختلفٍ كلياً عن عالمه. فالدخول إلى عالم كمال جنبلاط هو الدخول إلى عالم الخير المطلق، والجمال المطلق، والمحبة اللّا- متناهية، والإنسانية اللّا- محدودة، ويحتّم علينا التهيّب والاحترام والانحناء المتواضع أمام معلّمٍ نذر نفسه في خدمة الإنسانية، واستشهد على مذبح الدفاع عن الفقراء وعن سيادة واستقلال هذا الوطن. وعلى الرغم من توالي السنين على الولادة والشهادة ما زال كمال جنبلاط يعيش في ذاكرة غالبية اللبنانيين من الذين عاصروه، أو من الأجيال التي أتت من بعده، فهو ساكن في ضمير ووجدان كل الشرفاء والأحرار في لبنان والعالم.
عضو كتلة اللقاء الديمقراطي، النائب بلال عبدالله، لفت عبر “الأنباء” الإلكترونية إلى أنّ، “كمال جنبلاط كان صاحب مدرسة فكرية- سياسية- اجتماعية متقدمة عما رأيناه سابقاً في لبنان، فيها تصوّفٌ سياسي، ومبادرة في العطاء، وتجدّدٌ في الفكر وإطلاق المجتمع إلى الحداثة، فجرى اغتياله على مذبح السجن العربي الكبير”.
وأضاف عبدالله: “لنا الشرف أنّنا جيلٌ عايش كمال جنبلاط، وسيبقى ملتزماً بهذا الفكر النيّر دون تراجع مع سابق الإصرار على حمل الرسالة والوفاء لها”.
بدوره، أشار النائب السابق أنطوان سعد عبر جريدة “الأنباء” الإلكترونية إلى أنّه تعرّف إلى كمال جنبلاط من خلال علاقته الوطيدة مع العميد بطرس نخلة، وقد ذهب بصحبته الى المختارة، وتحدّث عن إعجابه بالمعلّم من اللقاء الأول الذي أعقبته لقاءات عديدة. وأكثر ما كان يلفته به أنّه، “رجلٌ حرٌ مميزٌ بفكره وثقافته وتعاطيه في العمل السياسي، أعطى السياسة نكهةً خاصة من قيَمه الأدبية والأخلاقية، فأضحى مدرسةً سياسية يستنير الجميع منها حتى أضحى مضرب مثل في الأخلاق، والأدب، والثقافة، والشعر”.
وأضاف سعد: “لقد كنت شغوفاً به، وبمواقفه الوطنية، وحرصه على لبنان، ورفضه لتدخل أية جهة خارجية بشؤونه الداخلية، واغتياله كان بحجم اغتيال وطن بكامله”.
النائب السابق فادي الهبر وصف كمال جنبلاط، “بالشخصية الوطنية والسيادية، فلقد كان له رأيه وثقافته ومبادئه التي لم يحد يوماً عنها”، لافتاً عبر “الأنباء” الإلكترونية إلى، “مشاركة جنبلاط بإرساء دولة المؤسّسات في عهد الرئيس فؤاد شهاب إلى جانب الشيخ بيار الجميل وعددٍ من القامات الوطنية. كما كان منحازاً للحريات، وللحالة الوطنية، وإلى جانب الفقراء بالتحديد، ومن دعائم العمل الوطني”، كاشفاً عن “الاجتماع الشهير الذي عقده جنبلاط مع بشير الجميل قبيل استشهاده لتحذيره من مغبة الموافقة على دخول السوريين إلى لبنان لأنّ خروجهم منه سيكون صعباً جداً”. وأكّد أنّ، “اغتيال رجالات من هذ النوع خسارة للوطن إلى جانب قافلة الشهداء ما قبل 14 آذار وما بعد هذا التاريخ. فجنبلاط كغيره من الشهداء دفع حياته ثمناً لرفضه الهيمنة السورية”.
وفي السياق عينه، عاد النائب السابق فارس سعيد بالذاكرة إلى عقودٍ خلت حين كان يذهب برفقة والدته إلى المختارة للقاء كمال جنبلاط، فكان يلتقيهما في غرفةٍ على يمين المدخل، وكانت جدرانها مطلية باللون الأزرق.
سعيد تحدث للأنباء الإلكترونية عمّا رواه له شاهدٌ عيان عن مهرجان دير القمر للجبهة الاشتراكية بحضور كميل شمعون، وحميد فرنجية، وغسان تويني، ولم يكن في ساحة الاحتفال سوى العشرات، وكيف غصّت ساحة الدير بعد وصول جنبلاط والوفد المرافق من جهة معاصر بيت الدين، مستذكراً ردة الحداء: “والشوف رافع رايتو والشعب كلو معارضة بالسيف ناخذ حقنا وما نريد نجري مفاوضة”.
هذه شهادات إنّما تستحضر بعضاً من شخصية رجلٍ فريدٍ عاش السياسة بمعانيها الأسمى، وانحاز دائماً للوطن ولأهله، وكان الصوت الصارخ دفاعاً عن حريّته واستقلاله، حتى أزعج حكام عصره فكانت جريمة اغتياله لينحدر من بعدها لبنان عميقاً في الدماء والحروب العبثية، والتي ما زال يدفع ثمنها إلى يومنا هذا.