شهر مضى على توقيع وزير الإعلام السابق جورج قرداحي إستقالته (3 تشرين الثاني)، إلا أنه لم يتم تقديمها رسميًا إلا في الثالث من شهر الجاري وذلك تزامنًا مع جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الخليج العربي.
سيناريو فرنسي
هذا التزامن بين الحدثين يطرح العديد من الفرضيات وعلى رأسها فرضية سيناريو فرنسي ينصّ على تدعيم إقتراح فرنسي بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين لبنان والمملكة العربية السعودية والإمارات وهو ما يعني عودة السفراء إلى مراكزهم، في مقابل إلتزام المسؤولين اللبنانيين بإجراء الإصلاحات السياسية والإقتصادية والمالية اللازمة للحصول على ثقة المجتمع الدولي والدول العربية.
من جهته، شدّد البيان السعودي – الفرنسي المُشترك على ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات شاملة، لا سيما الإلتزام بإتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان، وأكدا على ضرورة حصر السلاح على مؤسسات الدولة الشرعية. كما تم التأكيد على حرص السعودية وفرنسا على أمن لبنان واستقراره.
والظاهر أن هذا السيناريو أخذ طريقه حيث تم إجراء إتصال هاتفي مُشترك ضمّ كلا من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي حيث تمّ الحديث فيه عن نقطة مفصلية وفرصة أخيرة في إعادة بناء العلاقات بين لبنان والمملكة العربية السعودية.
وبحسب وكالة الأنباء السعودية أبدى الرئيس ميقاتي «تقدير لبنان لما تقوم به المملكة العربية السعودية وفرنسا من جهود كبيرة للوقوف إلى جانب الشعب اللبناني» وأكد إلتزام الحكومة اللبنانية «إتخاذ كل ما من شأنه تعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون، ورفض كل ما من شأنه الإساءة إلى أمنها واستقرارها».
قد يعتقد البعض أن المُشكلة حُلّت وإنتهت الأزمة وبالتالي سنشهد تحولًا جذريًا في هذه العلاقات إبتداءً من عودة السفراء وصولًا إلى وضع المملكة العربية السعودية وديعة بعشرة مليارات دولار أميركي في المصرف المركزي. إلا أن هذا الأمر هو غير صحيح نظرًا إلى التعقيدات الكبيرة التي تعترض قدرة الحكومة على العمل سواء داخليًا أو خارجيًا.
ميقاتي وتوكيل القوى السياسية
مُشكلة الرئيس ميقاتي أنه وعلى الرغم من كونه رئيساً للحكومة اللبنانية، إلا أنه لا يحمل توكيلا من القوى السياسية خصوصًا قوى محور المقاومة للتفاوض بإسم لبنان مع المملكة العربية السعودية. لا بل أبعد من ذلك، البيان الفرنسي السعودي المُشترك تحدّث عن «ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية» وهو ما يعني بشكلٍ مباشر سلاح المقاومة. فهل يملك الرئيس ميقاتي توكيلا للتفاوض على السلاح؟ الجواب بالطبع لا!
البعض يتوقّع أن تتمّ الدعوة إلى جلسة حوار وطنية للبحث في إستراتيجية دفاعية تبحث بموضوع السلاح خصوصًا أن الرئيس الفرنسي ماكرون تعهد لولي العهد السعودي بأن «ترعى باريس حواراً لبنانياً يتضمن نقاشاً حول ملفات إصلاحية تراعي هواجس الدول العربية الأخرى، وأنه سيجري اتصالات مع كل القوى، ومن ضمنها حزب الله».
ويبقى السؤال: أي طاولة حوار سيتم الدعوة إليها؟ وأي تعهدات من قبل القوى السياسية تستطيع باريس إنتزاعها من هذه القوى وهي التي – أي القوى السياسية – لم تلتزم بالمهلة الفرنسية بتشكيل حكومة في مدّة أسبوعين حين تمّ تكليف السفير مصطفى أديب تشكيل حكومة في أيلول 2020؟ وأي تأثير لماكرون على هذه الطاولة في ظل قرب الإنتخابات الرئاسية الفرنسية والتي – وإن كان الأكثر ترجيحًا لربحها – لا يضمن نتائجها؟
إحد التحليلات يقول أن الرئيس ماكرون يستطيع رعاية مثل هذا المؤتمر نظرًا إلى أنه سيُعيد تعويم الطبقة السياسية وفي المقابل سيكون هناك إستفادة لماكرون على صعيد الإنتخابات الرئاسية. إلا أن هذا التحليل يشوبه نقص عملًا بمبدأ أن الموضوع الرئيسي في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية هو موضوع الهجرة، وبالتالي فإن تأثير نجاح ماكرون بإخراج لبنان من نفقه المُظلم يبقى محدودًا.
إلا أن التعمّق أكثر في اللعبة يُظهر إلى العلن أن الهدف الرئيسي لماكرون يبقى بدون أدنى شكّ العقود التجارية التي توقّعها الشركات الفرنسية مع الدول العربية، وإستطرادًا مع لبنان، وهو ما يُمكن إستغلاله في الإنتخابات الرئاسية من خلال اللعب على البطالة المُتدنّية في وقت تجتاح فيه كورونا في موجتها التي قد تكون من الأصعب على الإقتصادات العالمية.
بغض النظر عن هذه التحاليل، عقد أي طاولة حوار حول موضوع الإستراتيجية الدفاعية ومصير سلاح المقاومة هو رهينة عوامل داخلية ولكن أيضًا خارجية. فالمملكة العربية السعودية لن تقبل بأقلّ من وقف ما تُسمّيه «تدخّل حزب الله في اليمن»، والولايات المُتحدة الأميركية تُريد وقف ما تُسمّيه «أي تهديد للدوّلة الصهيونية». أما بعض الدول الكبرى الأخرى، فترى في هذا السلاح عنصر توازن أو عائقا أمام السياسات الأميركية في المنطقة.
إذًا ومما تقدّم نرى أن تعهد ميقاتي بإلتزام حكومته إجراءات الإصلاحات السياسية والإقتصادية، ما هو إلا مُقدّمة لعودة السفراء في أحسن الأحوال. الواقع على الأرض يقول أن شيئًا لم يتغيّر حتى على صعيد الإصلاحات الإقتصادية والمالية البحتة هناك تعقيدات، فكيف الحال عن ضبط الحدود وغيرها من الملفات الحيوية بالنسبة لبعض القوى السياسية؟
الحكومة وملف التحقيقات
عمليًا، إستقالة الوزير قرداحي حلّت أزمة الرئيس ميقاتي بالدرجة الأولى من خلال إستبعاد سيناريو إنعقاد جلسة يتلو مُقرارتها وزير «أهان» المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المُتحدة في تصريح له في آب الماضي، وهو أمر مُحرجّ جدًا للرئيس ميقاتي الذي صرّح من الصرح البطرياركي أن قبلته السياسية والدينية هي المملكة العربية السعودية.
لكن تبقى المُشكلة الثانية التي تمنع إنعقاد جلسة لمجلس الوزراء وهي مُشكلة القاضي بيطار وتحقيقاته بتفجيرات مرفأ بيروت. فهذا الملف لم يصل إلى خواتيمه على الرغم من الإتفاق الثلاثي بين الرؤساء ميشال عون، ونبيه برّي، ونجيب ميقاتي في مراسيم عيد الإستقلال والذي ينصّ على أن يُصوّت المجلس النيابي على قانون يمنع فيه على القضاء مُحاكمة النواب والرؤساء وحصرها بالهيئة العليا لمحاكمة الرؤساء والوزارء. وهو مخرج قد يفكّ الحصار عن إجتماعات حكومة ميقاتي ولكنه ينتظر موافقة التيار الوطني الحرّ على تأمين النصاب والتصويت عليه. وتُشير المعلومات إلى أن التيار الوطني الحرّ وافق على تأمين النصاب لكنه لا يوافق على التصويت على هذا القانون خوفًا من الثمن السياسي الذي قد يدفعه على بعد أشهر من الإنتخابات النيابية. وبالتالي تتحدّث بعض الأوساط عن ضمانات تُقدّمها القوى السياسية الأخرى للتيار للقبول بهذا التصويت وعلى رأسها قبول الطعن بقانون الإنتخابات.
هذا القانون إذا ما تمّ التصويت عليه، سيكفّ يدّ القاضي بيطار عن ملاحقة النواب والوزراء في إطار التحقيقات التي يُجريها في ملف تفجير مرفأ بيروت. وبالتالي فإن مصير حكومة الرئيس ميقاتي مُعلّق على جلسة المجلس النيابي غدًا والتي قد تشهد تطوّرات كبيرة خصوصًا فيما يخصّ قانون الكابيتال كنترول.
قانون «الكابيتال كنترول»
أحد أهم البنود الواردة على جدول أعمال المجلس النيابي غدًا، قانون الكابيتال كنترول بصيغة جديدة أثارت إعتراض بعض القوى السياسية. هذا الأمر يفرض سنياريو من إثنين: الأول وينصّ على كسر نصاب الجلسة لحظة طرح بند قانون الكابيتال كنترول؛ والثاني ينصّ على نقاشات حادّة قد تتطوّر إلى مواجهة بين بعض النواب وبعض أعضاء لجنة المال والموازنة.
التحليل يُظهر أن وضع المصارف اللبنانية من ناحية السيولة المُتوفرة بالعملة الصعبة، تمنع أي قدرة على وضع أرقام في القانون خوفًا من إفلاس المصرف الذي يرفض التحويل وبالتالي تطيير الإلتزامات تجاه مودعي المصرف. وبالتالي وبحسب أحد النواب، لا يُمكن إعطاء سلطة البتّ في قدرة المصرف على التحويل إلا إلى المصرف المركزي.
ويقول مصدر مُطّلع على ملف قانون الكابيتال كونترول لجريدة «الديار» أن الصيغة المطّروحة للمشروع تحظى برضى صندوق النقد الدولي خصوصًا من ناحية الضوابط على التحاويل، وهو ما سرّع البتّ فيه ودفع إلى طرحه على جدول أعمال مجلس النواب غدًا.
تقرير «موديز»
بالتزامن مع التوافق الذي طال مشروع قانون الكابيتال كنترول، أصدرت وكالة التصنيف الإئتماني «موديز» تقريرًا رجّحت فيه خروج نحو 9.5 مليار دولار أميركي من الودائع المصرفية منذ بدء الأزمة في العام 2019 وحتى اليوم. وبحسب التقرير، فإنه «على الرغم من القيود غير الرسمية على التحاويل مع نهاية عام 2019 فإن نحو 5.4 مليار دولار من ودائع غير المقيمين بالعملة الأجنبية خرجت من لبنان خلال الفترة الممتدة بين شهر كانون الثاني 2020 وشهر أيلول 2021 مع ارتفاع هذا الرقم إلى 9.5 مليار دولار إذا تم شمل عام 2019». ويعتقد العديد من المُحلّلين أن بعض السياسيين النافذين هم المُستفيدون الأوائل من هذه التحويلات.
فهل يوقف قانون الكابيتال كنترول الإستنسابية في التحاويل إلى الخارج؟