على أكثر من جبهة يسود التناحر بين أهل الأكثرية الحاكمة، وعلى وجه أخص بين العهد وتياره من جهة، والثنائي الشيعي من جهة أخرى، فرضاً لتوازن المصالح والمكاسب في ميزان الربح والخسارة، حكومياً ونيابياً وقضائياً، مع ما يقتضيه ذلك من مناوشات وتجاذبات وتصعيد في المواقف ورفع للسقوف، توصلاً في نهاية المطاف إلى صيغ تسووية تتبادل الأدوار والمغانم ويخرج فيها الجانبان بأقصى ما يستطيعان من مكتسبات.
فعلى ضفة رئيسي الجمهورية و”التيار الوطني الحر”، يتحصن العهد بهوامش قوته الدستورية والميثاقية ليضع “حزب الله” على الدوام أمام مفترق الاختيار بين تغطية وتلبية أجندة المصالح العونية أو المخاطرة بنزع الغطاء العوني المسيحي عن أجندة مصالحه الاستراتيجية، بينما على ضفة الثنائي الشيعي يتحصن “حزب الله” و”حركة أمل” بفوائض قوة عسكرية وسطوة سياسية قادرة على لجم الاندفاعة “البرتقالية” ومنعها من تجاوز “الخطوط الحمر” في هذا الاتجاه أو ذاك…
وتحت هذا السقف، يتواصل الأخذ والرد بين الهوامش والخطوط الحمر، في جملة ملفات وأبرزها ما يتصل بالتحقيق العدلي في جريمة انفجار المرفأ والتعديلات الانتخابية، حيث بلغ التجاذب مداه خلال الساعات الأخيرة و”استنفد الطرفان الوقت والقدرة على المناورة”، لتتلمّس مصادر مواكبة في ضوء ذلك، معالم “مقايضة” بدأت تتشكل قضائياً وتشريعياً بين الجانبين.
وأوضحت المصادر أنّ عملية “رفع السقوف” وصلت إلى أعلى مستوياتها بين “تصريحات” رئيس الجمهورية و”تسريبات” الثنائي الشيعي الإعلامية حول مصير الطعن بتعديلات القانون الانتخابي أمام المجلس الدستوري… فبين تأكيد الرئيس ميشال عون أمام وفد نقابة المحررين أنّ “الحكم بالطعن سيصدر لمصلحة الجهة الطاعنة مع التلميح إلى ضرورة تأجيل تصويت المغتربين في حال عدم إقرار دوائر اقتراعهم القارية”، وبين تسريب معلومات صحافية مناقضة تفيد بعدم اتخاذ المجلس الدستوري قراراً في الطعن المقدم من تكتل “لبنان القوي” وبالتالي ترك التعديلات الانتخابية لتصبح نافذة حكماً، رأت المصادر أنّ “التفاوض دخل عملياً مراحله النهائية لبلورة تصور مشترك تشريعي – قضائي – انتخابي”، متوقعة أن تشهد الأيام المتبقية على انتهاء مهلة البت بالطعن الدستوري “اتصالات مكثفة في محاولة أخيرة لإيجاد صيغة تسووية بين “التيار الوطني” و”حزب الله” ترضي الجانبين وتحقق ما يصبو إليه كل منهما، سواءً بالنسبة لمسألة اقتراع المغتربين أو في ما يتصل بمسار التحقيق العدلي في جريمة المرفأ”.
وإذ تنتهي المهلة القانونية أمام المجلس الدستوري يوم الثلثاء المقبل، ليقدّم جوابه بقبول الطعن أو عدمه في قانون التعديلات الانتخابية، تقاطعت المعلومات خلال الساعات الأخيرة عند التأكيد على عدم وجود أي اتفاق نهائي حول القرار الدستوري الذي سيخرج به المجلس، ورجحت المصادر أن يكون ضخ هذه المعلومات يصب في خانة التأشير إلى “الحاجة إلى إنجاز اتفاق سياسي يسهّل التوصل إلى قرار دستوري” في الطعن الانتخابي، تحت طائل تمهيد الأجواء لعدم إمكانية اتخاذ مثل هذا القرار في ظل غياب التوافق، لا سيما وأنّ أعضاء المجلس الدستوري أنفسهم توافقوا على عدم تطيير النصاب وتأمينه في كل الجلسات.
وبناءً عليه، لفتت المصادر إلى أنّ “حسم أي قرار يحتاج إلى أكثرية 7 أصوات بينما القضاة المحسوبون على العهد وتياره لا يتجاوزون الـ4، وفي حال عدم التوصل إلى توافق أو اتفاق مسبق فإنّ القرار الأسهل والأوفر حظاً سيكون عدم التصويت على أي قرار فتكون عندها المراجعة مردودة، من دون استبعاد قبول الطعن ببند احتساب نصاب الأكثرية المطلقة في مجلس النواب لجهة المادة 57، مقابل اعتبار الدائرة الانتخابية رقم 16 الخاصة بالمغتربين مخالفة للدستور وبالتالي يجب إبطالها”.
وفي الغضون، يواصل الرئيس نجيب ميقاتي صراعه المرير مع التعطيل الحكومي، ويقوم ما بوسعه لترقيع غياب مجلس الوزراء باجتماعات وزارية وتشاورية في السراي الكبير على قاعدة “الحكومة ماشية ومجلس الوزراء واقف”، وكانت له أمس مواقف واضحة في معرض تجديد امتناعه عن توجيه أي دعوة لانعقاد مجلس الوزراء من دون “ضوء أخضر” مسبق من الثنائي الشيعي… “لأن الدعوة في الظروف الحالية المتشنجة ومن دون تأمين الحد الأدنى من التفاهم ستكون كمن يؤجج الخلاف ما يؤدي الى تفاقم الأمور وتصبح أكثر تعقيداً”، كما قال أمس، مع التشديد في الوقت نفسه على أنّ “الوقت لم يعد مناسباً للتعطيل أو المكابرة أو فرض الشروط والشروط المضادة فيما مستويات الانهيار تتطلب تضافر كل الجهود للمعالجة، والمطلوب من الجميع التخلي عن اعتبار الحكومة متراساً للكباش السياسي الذي لا طائل منه”.
وانطلاقاً من كلام ميقاتي، أكدت أوساط مطلعة على أجواء السراي أنّ رئيس الحكومة اختصر موقفه بالأمس بمعادلة قائمة على “عدم تسليمه بواقع التعطيل عبر شروعه بتفعيل عمل اللجان الوزارية وتحويل السراي الحكومي إلى خليّة نحل سواءً على صعيد المشاورات الوزارية أو المفاوضات المالية مع صندوق النقد الدولي، وعدم استسلامه أمام الضغوط الكبيرة التي تمارس عليه للانجراف خلف ردات فعل عشوائية أو صدامية غير محسوبة العواقب، وعدم استعداده للقفز في المجهول والمغامرة بالإقدام على أي خطوة قد ينتج عنها الإطاحة بحكومته”.