مستعيداً صفة “الجنرال” في مستهل خطابه “الثوري” على من وصفها بـ”المنظومة” الحاكمة التي يتربع على رأس هرمها! أطلّ رئيس الجمهورية ميشال عون مساءً على اللبنانيين بصورة العاجز المستضعف، معيداً صياغة عبارة “ما خلّوني” بمرادفات لها تصب في الخانة نفسها من “كليشيهات” تبرير الفشل والتنصل من تبعاته، فكان الخطاب العوني بمجمله عبارة عن ترداد لمعزوفة “التظلم والشكوى” التي دأب العهد على الضرب على وترها منذ يومه الأول حتى عامه الأخير، في معرض التخفّف من أوزار الانهيار ورميها يميناً وشمالاً خارج أسوار “بعبدا” و”ميرنا الشالوحي”.
فمن حيث كان يجب أن يبدأ عهده، انتهى عون في آخر أيام حكمه إلى طرح عناوين سيادية وإشكالية، في محاولة لقلب الطاولة في وجه حلفائه قبل الخصوم، وفي طليعتهم “حزب الله” الذي خصّه بـ”هزة عصا” تجاه سلاحه، من خلال “نفض الغبار” الرئاسي عن ملف الاستراتيجية الدفاعية وسحبه من أدراج قصر بعبدا لإعادة إدراجه على طاولة “حوار وطني عاجل” من ثلاثة بنود، يتصدرها بند “اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة”، انطلاقاً من تشديد رئيس الجمهورية على أنّ الحاجة باتت ملحّة إلى “تغيير النظام” توصلاً إلى “تسكير حسابات الماضي”… على أنه بدا واضحاً أنّ طروحاته في هذا الصدد لم تكن سوى “الأرضية التأسيسية” لما يمكن أن يبلغه تصعيد رئيس “التيار الوطني الحر” رداً على سقوط طعنه الانتخابي، فكان الكلام العوني أمس بمثابة “ترويسة خيط” لكلام جبران باسيل في الثاني من كانون الثاني المقبل.
وإذا كان باسيل سينطلق من سقف “اللامركزية الموسعة” التي لوّح بها عون، ليرتقي في طروحاته نحو سقوف أعلى قد تبلغ مستوى التلويح بشعار “الفدرالية” في محاولة لدغدغة المشاعر المسيحية، فإنّ صدى كلامه سرعان ما سيكون محكوماً بعد 24 ساعة بالسقف الذي سيرسمه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله لطروحات العهد وتياره في إطلالته المرتقبة مساء الثالث من كانون الثاني في الذكرى السنوية الثانية لاغتيال اللواء قاسم سليماني… والأرجح بحسب مصادر سياسية مخضرمة أن طرح اللامركزية والفيدرالية سيكون “السلاح” الانتخابي الذي سيضعه باسيل في ميزان تجديد المساكنة مع سلاح “حزب الله”، وهو ما سيصل في نهاية المطاف إلى السعي لإبرام مقايضة تسووية جديدة بين الجانبين، تهدف إلى تكريس “المثالثة” في نظام الحكم اللبناني الجديد لقاء إعادة “حزب الله” تمديد مفاعيل “تفاهم مار مخايل” رئاسياً مع باسيل بعد عون.
وكان رئيس الجمهورية قد أطلق بالأمس صفارة الانطلاق في اتجاه هذه التسوية المنشودة، على قاعدة أنّ “المصارحة” تقتضي أن “نتعلم من التجربة ونعدّل نظام الحكم”، شاكياً قصر يده وقلة حيلته في التصدي للانهيار وإنهاء “المراوحة القاتلة”، مزاحماً عموم اللبنانيين بالشكوى من تردي أحوال البلد، ليطرح جملة تساؤلات من قبيل “وين؟ وكيف؟ وليش؟” في سياق توجيهه سهام الاتهام باتجاه مسؤولية الثنائي الشيعي المباشرة عن تعطيل أعمال مجلس الوزراء وشلّ المؤسسات والقضاء، مع تصويبه بشكل مباشر على رئيس مجلس النواب نبيه بري من دون أن يسميه، باعتبار المجلس متواطئاً في عملية تعطيل الحكومة وفي إجهاض القوانين الإصلاحية.
وبينما طالب بعودة انعقاد مجلس الوزراء “اليوم قبل الغد”، خلص عون إلى توجيه الدعوة إلى عقد حوار وطني “من أجل التفاهم على ثلاث مسائل، والعمل على إقرارها لاحقاً ضمن المؤسسات، وهي: اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، الاستراتيجية الدفاعية لحماية لبنان، وخطة التعافي المالي والاقتصادي بما فيها الإصلاحات اللازمة والتوزيع العادل للخسائر”. وتحت طائل التحذير في حال عدم التجاوب مع طروحاته، بدت عبارة “آمل ألا أضطر إلى أن أقول أكثر” التي اختتم بها خطابه، رسالة واضحة إلى “حزب الله” تنذر بمزيد من التصعيد العوني في طرح مسائل حساسة بالنسبة لـ”الحزب”، بدءاً من إعادة إثارته أمس ملف السلاح تحت عنوان “الاستراتيجية الدفاعية” وإن كان ضمن سياق حمّال للأوجه، حرص عون على أن يوازن فيه بين كفّة التأكيد على أنّ “الدفاع عن الوطن يتطلب تعاوناً بين الجيش والشعب والمقاومة”، وبين كفّة التلميح إلى كون “المسؤولية الأساسية (في الدفاع) هي للدولة وحدها، الدولة التي تضع الاستراتيجية الدفاعية وتسهر على تنفيذها”.
وفي المقابل، لاحظت أوساط معارضة أنّ رئيس الجمهورية تجاهل طرح “الحياد” الذي تنادي به البطريركية المارونية لإنقاذ الصيغة والكيان بوصفه المدماك الأساس في عملية انتشال لبنان من أزماته وصراعاته المتناسلة داخلياً وخارجياً، فأقصاه عن جدول أعمال الحوار، محاولاً تصوير بندي اللامركزية الإدارية والمالية والاستراتيجية الدفاعية على أنهما مفتاح الحل للأزمة الوطنية، معتبرةً أن في ذلك “محاولة متأخرة جداً” من عون لإضفاء مشروعية على جوهر الحوار الوطني الذي دعا إليه، بينما كان هو نفسه من عمد إلى تهميش ملف الاستراتيجية الدفاعية وتجنب طرحه على طاولة الحوار طيلة فترة عهده، بخلاف ما وعد مراراً وتكراراً سواءً قبل وصوله إلى قصر بعبدا أو قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، حتى انتهى به المطاف إلى أن المجاهرة داخلياً وفي المحافل الخارجية بأهمية بقاء سلاح “حزب الله” مقابل التقليل من قدرات الجيش اللبناني في الدفاع عن البلد، وصولاً إلى تصريحه الصادم عام 2019 والذي اعتبر فيه رداً على سؤال عن سبب عدم دعوته إلى طاولة حوار لبحث الاستراتيجية الدفاعية أن هذه الاستراتيجية لم تعد صالحة للتطبيق لأنّ “كل المقاييس تغيّرت وحتى مناطق النفوذ تتغيّر”!
تزامناً، برز أمس توقيع وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي مرسوم دعوة الهيئات الناخبة لإنتخاب أعضاء مجلس النواب، في 15 أيار المقبل للمقيمين، على أن يسبقها اقتراع غير المقيمين في السادس والثامن من أيار، والموظفين في 12 منه، وهو ما وضع عملياً الاستحقاق الانتخابي المنتظر على “السكة الإجرائية” مع إحالته إلى مجلس الوزراء لإقرار مراسيمه، وسط ترقب لما سيكون عليه موقف رئيس الجمهورية من الدعوة الانتخابية في حال عدم التجاوب مع الدعوة الحوارية التي أطلقها لتعديل النظام، غداة سقوط الطعن الانتخابي الذي قدمه “التيار الوطني”.