لم يكن اللبنانيون الغارقون في أقسى وأسوأ ما أفضت إليه أفضال طبقة سياسية من كوارث انهيارية، يتوقعون أن يأتي أي خير على ايدي الطبقة السلطوية عيدية رأس السنة لهم، لكنهم ما كانوا يتوقعون على الأقل أيضا ان يبلغ مستوى المهازل السياسية والانكشاف الفضائحي في سلوكيات معظم هذه الطبقة، المدى الذي بلغه في اليومين الثاني والثالث من مطلع السنة الجديدة. فعلى نحو لا يمكن وصفه الا بالفضائحي انفجرت معارك سجالية عقيمة ومقذعة في “افتتاحية” سنة انتخابية قد لا يكون من المغالاة ابدا التأكيد ان أحداً من الناس لا يهمه منها كل ما تطاير من احتدام وعداوات وأحقاد وإسفاف كلامي وتعبيري ما دام كل ذلك يدور على خلفية ردح هدفه تعويم شعبيات متراجعة، او تزخيم مواقع مهتزة، او فتح الباب امام صفقات ومقايضات مشبوهة جديدة، كأنه لم يكف لبنان ما ناله بعد من انهيارات بسبب هذه الأنماط المدمرة. في بداية السنة 2022 ضجت المنابر الإعلامية والتلفزيونية والمواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي بصخب ألهب “حرب الرئاستين” الأولى والثانية مجدداً ودفعها نحو متاهة اشد تعقيداً لم تتوقف على ذيول وخلفيات متصلة بأزمة تعطيل مجلس الوزراء او بصدمة المجلس الدستوري او بمسألة التحقيق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت ، بل نبشت كل شياطين الحساسيات والعداوات التي توغلت نحو مشاريع نسف الطائف برعونة مخيفة . انفجرت المعارك والسجالات على خلفية سنة كسر عظم انتخابية وفي بداياتها فيما غابت عن المنخرطين في هذه المهزلة الدرامية كل الكوارث التي يعاني منها اللبنانيون، وبدت أولويات الناس في أخر مراتب أولويات أولئك الذين استسهلوا مجددا القفز فوق وقائع الانهيار المتدحرج بقوة مخيفة والمرشح لان يبلغ مستويات اشد خطورة في قابل الأيام وسط هذا المناخ المتفجر.
بدأ اشتعال الاحتدام مع الكلام المتفجر لرئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل الذي أراد من هجماته الحادة على الخصوم وسيلة ابتزاز للحليف الشيعي القوي “حزب الله” فزج بمعادلات طائفية خطيرة على المسيحيين والشيعة في هذا المعترك وألهب ردودا من حركة “امل” وبدرجة اقل من “القوات اللبنانية” فيما كان “حزب الله” ينصرف إلى تحويل المسرح الإعلامي والدعائي والسياسي إلى مناسبة احيائه ذكرى مقتل قاسم سليماني الذي حول الحزب صورته العملاقة على طريق المطار علامة استفزاز ومناسبة تذكير بارتباطاته الإيرانية الكاسحة الماسحة، علما ان هذا الجانب اختفى من “انتقادات” جبران باسيل لشريكه في تفاهم مار مخايل . ثم جاءت كلمة أمينه العام السيد حسن نصرالله مساء امس على إيقاع “تهدوي” حاول فيها احتواء التداعيات العلنية الظاهرة في ما بدا من تباعد مع “التيار الوطني الحر” والعهد العوني من خلال كلمة خاطفة في الشأن الداخلي تاركا هذا الملف لوقت لاحق . وإذا كان باسيل أراد ان يسدد سهام الهجمات العنيفة بصورة أساسية نحو رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، فان الشوكة الكبيرة التي نصبها لنفسها في هذا المعترك تمثلت في مداهنته لبشار الأسد وإعلانه استعداده لزيارة دمشق.
وبدا واضحا ان البلاد ستعيش في مطالع السنة احتداما كبيرا في “حرب الرئاستين” بما يضع الازمة الحكومية امام مزيد من التمديد للاستعصاء في إيجاد مخارج لها اذ ان الفتيل الذي أشعله باسيل ورد عليه المعاون السياسي لبري النائب علي حسن خليل ومن ثم اشعل السجالات العنيفة بين نواب ومسؤولين حزبيين من الفريقين اقترن بحماوة تصاعدية بين بعبدا وعين التينة حول موضوع فتح دورة استثنائية لمجلس النواب الذي يرفض رئيس الجمهورية ميشال عون توقيع مرسومها ردا على تعطيل مجلس الوزراء فيما اطلق بري ردا على هذا الرفض توقيع عريضة نيابية للمطالبة بفتح الدورة وبات استجماع اكثر من نصف عدد النواب امرا مؤكدا بما يعني ليّ ذراع بعبدا مجددا في هذا السياق.
نصرالله
وبدا لافتا ان نصرالله اختار ترحيل اعلان موقفه التفصيلي مما جرى ولكنه اكد “اهمية الحوار واي دعوة للحوار بين اللبنانيين”، وشدد على “اننا حريصون جدا على حلفائنا وأصدقائنا وعلى علاقاتنا ونحن متمسكون بالتفاهم مع التيار الوطني الحر وحاضرون لتطويره بما يحتّم من مصلحة وطنية” . واعتبر في الذكرى السنوية الثانية لمقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس بان “ما قيل في مقابلة رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل وفي غيرها من المقابلات التلفزيونية التي حصلت في اليومين الماضيين مسائل تحتاج إلى توضيح ومصارحة”. اضاف “سوف نتحدث مطولاً عن الشأن الداخلي في الأيام المقبلة، لكن طبيعة المناسبة والوقت المتاح لا يسمحان لي أن أتطرق للوضع المحلي الداخلي الآن”. ومن ثم شن هجوما عنيفا على الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية واتهم الأخيرة بانها مصدر الإرهاب وراعية داعش.
وعلى وقع احتدام السجالات هذه، واصل سعر صرف الدولار في السوق السوداء ارتفاعه حيث وصل إلى مستويات جنونية بعد ظهر أمس وسجّل سعر الدولار لدى الصرّافين 28,900 ليرة كحدّ أدنى، و29,200 ليرة كحدّ أقصى.
وكان سعر صرف الدولار في السوق السوداء تراوح صباح أمس بين 28600 و28800 ليرة للدولار الواحد.
بين “امل” و”التيار”
وفي رده على باسيل قال النائب علي حسن خليل “نحن أمراء الدفاع عن لبنان ووحدته ولا نعرف ما إذا كان مؤسس “التيار” الرئيس ميشال عون هو من بين أمراء الحرب الذين تحدث عنهم… اللبنانيون يشهدون من شوه الديموقراطية التوافقية بتعطيل الدولة والقرارات في مجلس الوزراء من اجل تمرير الصفقات، وانتم من عطلتم التصويت في مجلس الوزراء في ملفات الطاقة والاتصالات والبيئة واعتبر”ان باسيل ينادي بحقوق التيار والجماعة، لا بحقوق المسيحيين التي تم هدرها في الصناديق السود”. وقال “المشكلة في الدولة عندما ننتخب رئيسين للجمهورية في الوقت نفسه، هنا تضيع المسؤولية”…
أما في نماذج الردود العونية على خليل فان النائب جورج عطاالله وصف حركة امل ب “مجموعة اللا أمل” ووصف خليل “بالملاحق والمطلوب والفار من وجه العدالة وكان الحري بهذه المجموعة ان تكلف وجها آخر بالرد غير وجه الهارب الفار الذي لا ينفك عن تقديم طلبات الرد حتى يؤخر استجوابه”…
ومساء امس غرّد “التيار الوطني الحر” عبر “تويتر”: “طالب التيار الوطني الحر بمحاكمة علنية بملف معمل الكهرباء بدير عمار، وبأي طريقة شفافة وعادلة فإذا تبيّن ان وزارة الطاقة اخطأت فساداً او هدراً فالتيار يطلب من رئيسه الاستقالة من العمل السياسي . اذا ثبت أن وزارة المال هي التي أهدرت فعلى حركة أمل ان تفعل المثل وتطلب من رئيسها الاستقالة من رئاسة المجلس النيابي. فإلى الحقيقة تفضّلوا”.
وسارع علي حسن خليل إلى الرد “مرحبا باقتراح التيار حول اجراء المحاكمة العلنية والشفافة في ملف معمل دير عمار.. برئيس مقابل الرئيسين.. وليستعدوا للاستقالة “.
“القوات اللبنانية” لم تصدر ردا مركزيا على باسيل باستثناء تغريدات وتعليقات لبعض نوابها ولمرشحها عن البترون غياث يزبك . وقال رئيس جهاز العلاقات الخارجية في الحزب الوزير السابق ريشار قيومجيان “حديث باسيل مؤسف واستعداء للأطراف السياسية وفيه استرضاء “للحزب” ومقاربته موضوع عين الرمانة واتهامه للقوات اللبنانية بالعمالة لأميركا واسرائيل يعكس سقوطا أخلاقيا ووطنيا وعليه أن يخجل من الأهالي”. وراى ان “جبران باسيل تحوّل إلى حفّار قبور والعهد أصبح جثة سياسية تماماً مثل ما حصل عام 1988، معتبرا أن ورقته الرئاسية هي ورقة محروقة وهناك رفض جماعي لأن يأتي باسيل رئيساً للجمهورية”.
رد ميقاتي
وفي ظل حملة التهجم العنيفة التي شنها نصرالله على المملكة العربية السعودية واتهامه لها بتصدير الانتحاريين والإرهابيين إلى العراق زاعما ان ايران ترسل في المقابل من يضحي لحماية العراق، اصدر رئيس الوزراء نجيب ميقاتي مساء ردا انتقد فيه للمرة الأولى بسقف حاد مماثل موقف نصرالله وجاء فيه: “لطالما دعونا إلى اعتماد النأي بالنفس عن الخلافات العربية وعدم الاساءة إلى علاقات لبنان مع الدول العربية ولا سيما المملكة العربية السعودية. ومن هذا المنطلق كانت دعوتنا إلى ان يكون موضوع السياسة الخارجية على طاولة الحوار لتجنيب لبنان تداعيات ما لا طائل له عليه. إن ما قاله سماحة الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بحق المملكة العربية السعودية هذا المساء لا يمثل موقف الحكومة اللبنانية والشريحة الاوسع من اللبنانيين. وليس من مصلحة لبنان الاساءة إلى اي دولة عربية، خصوصا دول الخليج. وفيما نحن ننادي بأن يكون حزب الله جزءا من الحالة اللبنانية المتنوعة ولبناني الانتماء، تخالف قيادته هذا التوجه بمواقف تسيء إلى اللبنانيين اولا وإلى علاقات لبنان مع اشقائه ثانيا. إننا نكرر دعوتنا للجميع للرأفة بهذا الوطن وابعاده عن المهاترات التي لا طائل منها، ولنتعاون جميعا لاخراج اللبنانيين من وحول الازمات التي يغرقون فيها، فنعيد ترميم اسس الدولة وننطلق في ورشة الانقاذ المطلوبة. بالله عليكم إرحموا لبنان واللبنانيين واوقفوا الشحن السياسي والطائفي البغيض”.