أمام الحالة اللبنانية الميؤوس منها، لم يعد ينفع سوى الدعاء والتضرّع ورفع الصلوات لرفع الكرب عن هذا البلد بعدما أخذت الأكثرية الحاكمة أبناءه “رهائن” في عقر ديارهم، فقطعت عنهم سبل العيش والنجاة، وتركتهم يصارعون الموت من قلّة الغذاء والدواء والاستشفاء، في أكبر جريمة منظمة من نوعها ترتكبها سلطة بحق شعبها عن سابق إصرار وترصّد، لغايات وحسابات، منها ما هو سلطوي يطمح إلى إحكام القبضة الإقصائية على الخصوم، ومنها ما هو استراتيجي يهدف إلى الإطباق على الكيان والإجهاز على الهوية، وهو ما بات يشكّل مبعث قلق متعاظم عبّر عنه البابا فرنسيس أمس بوضوح أمام أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمد في الفاتيكان، من خلال تأكيده الصلاة من أجل لبنان “لكي يبقى ثابتاً في هويته”.
ومع تفاقم الأزمات وتراكمها على كاهل المواطنين، أصبح البلد واقفاً على شفير انفجار اجتماعي وشيك “بدأ فتيله يشتعل على الأرض بشكل ملموس منذراً بقرب خروج الأمور عن السيطرة” وفق التقديرات والتحذيرات التي تناقلتها أوساط مراقبة لتدحرج كرة الحراك المناطقي خلال الساعات الأخيرة، معتبرةً أنّ لبنان دخل ابتداءً من هذا الأسبوع مرحلة “اضطرابات متنقلة”، قد تشهد منعطفات ومنزلقات خطيرة على المستوى الميداني، تحت وطأة تفلت سعر الدولار وانهيار القدرة الشرائية لدى الأكثرية الساحقة من اللبنانيين وتمدد شرارة الأزمات في أكثر من اتجاه، لا سيما في ضوء ارتفاع سعر المحروقات اليوم، وتلويح المطاحن والأفران بانقطاع الطحين والخبز غداً، وصولاً إلى “يوم الغضب” الذي ينفذه اتحاد النقل البري بعد غد الخميس.
وتزامناً، برزت أمس أزمة جديدة تجسدت بالإعلان عن عدم تقاضي أكثر من 6000 مواطن من المتعاقدين والاجراء والمياومين وغيرهم في القطاع العام، رواتبهم وتعويضاتهم نهاية كانون الثاني الجاري، ربطاً بعدم قدرة وزارة المالية على سدادها قانوناً بسبب عدم تجديد عقودهم في مجلس الوزراء… وفور شيوع الخبر، سارع المسؤولون إلى تقاذف كرة المسؤولية باتجاه بعضهم البعض، وسط تركيز على رفض رئيس الجمهورية ميشال عون طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي توقيع قرارات استثنائية تتصل بموظفي القطاع العام.
وعلى الأثر، أصدرت رئاسة الجمهورية بياناً أوضحت فيه أنّ رفضها توقيع مثل هذه القرارات ينطلق من كونها ترى أنه “من المتعذر إصدار موافقات استثنائية في ظل حكومة غير مستقيلة ولا هي في مرحلة تصريف الاعمال”. وإذ شددت على أنّ “الحل المناسب هو في انعقاد مجلس الوزراء لدرس هذه المواضيع واصدار القرارات المناسبة في شأنها”، بدا واضحاً أنّ رئاسة الجمهورية تحمّل في بيانها “الثنائي الشيعي” مسؤولية مباشرة عن عدم تقاضي المتعاقدين والأجراء والمياومين أتعابهم نهاية الشهر باعتبار أنّ “أي تأخير قد يحصل في معالجة حقوق المتعاقدين والأجراء والمياومين وغيرها من الحقوق والموجبات المالية وغير المالية، تتحمل مسؤوليته الجهات التي تعطل انعقاد جلسات مجلس الوزراء”، مجددةً التشديد على وجوب عودة الحكومة إلى الاجتماع “في أسرع وقت ممكن تفادياً لمزيد من الأضرار التي تلحق بالدولة ومؤسساتها وبالعاملين فيها، مدنيين وعسكريين، فضلاً عن ضرورة مناقشة مشروع قانون موازنة العام 2022 وعرض خطة التعافي المالي فور انجازها”.
وفي المقابل، رأت مصادر وزارية أنّ “التيار الوطني الحر” تعمّد تصعيد هذه الأزمة عبر الدفع باتجاه رفض رئاسة الجمهورية توقيع الموافقات الاستثنائية كما طلب رئيس الحكومة، كاشفةً أنّ ميقاتي كان قد اتفق مع عون في 5 كانون الثاني على فتح دورة استثنائية لمجلس النواب والتوقيع على موافقات استثنائية تتعلق ببدلات النقل (مقطوع شهري للاسلاك العسكرية والامنية)، وزيادة بدل النقل إلى 65 ألف ليرة للقطاع الخاص و64 ألف ليرة للقطاع العام، والهبة المالية أو المساعدة الإجتماعية (منح شهر ونصف شهر من قيمة الراتب لموظفي القطاع العام عن شهري تشرين الثاني وكانون الاول 2021)، فضلاً عن تجديد عقود المتعاقدين مع الدولة اللبنانية.
وبموجب هذا الاتفاق، أرسل رئيس الحكومة في اليوم التالي، أي في 6 كانون الأول الكتاب إلى رئيس الجمهورية لتوقيع الموافقات الاستثنائية، إلا أنّ المفاجأة أتت من خلال تبديل عون موقفه والتمسك بوجوب انعقاد مجلس الوزراء لاتخاذ القرارات المناسبة بهذا الخصوص، وهو ما اعتبرته المصادر بمثابة “ورقة ضغط” قرر رئيس “التيار الوطني” جبران باسيل استخدامها سواءً في وجه رئيس الحكومة لتمنعه عن دعوة مجلس الوزراء للانعقاد، أو في مواجهته المفتوحة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، باعتبار شريحة كبيرة من المتعاقدين في القطاع العام هي محسوبة سياسياً على بري، مستفيداً من كون مجلس الوزراء لم يقرّ تمديد عقودهم في الملاكات العامة كما درجت العادة سنوياً بسبب عدم انعقاده قبل نهاية العام.