تجاوز الحديث عن الأجندة الإيرانية في المنطقة العربية مستوى الإضاءة على مطامع بتعزيز النفوذ والحظوة والمكانة، ليبلغ خلال الآونة الأخيرة مستويات متقدمة زاحمت طهران من خلالها إسرائيل على مرتبة “عدوّ العرب”، تحت وطأة حربها التخريبية المتمادية والمتمدّدة على امتداد الخارطة العربية… فحتى العواصم التي سلمت تاريخياً من شرّ الاستهدافات الإسرائيلية لم تسلم من شرارة الاستهدافات الإيرانية لأعماق العمق العربي، وآخرها بالأمس استهداف عاصمة الإمارات العربية المتحدة بهجمات جوية وصاروخية على منشآت مدنية في أبو ظبي.
صحيح أنّ عنوان الاعتداء العريض حمل بصمة “الحوثي”، لكن الأصحّ من المنظور العربي والعالمي وبنظر جزء كبير من اليمنيين أنفسهم أنّ “المسؤولية عن الهجوم ترقى بدرجة يقينية إلى تبديد أي شك حول وقوف طهران خلفه”، وفق تعبير أوساط ديبلوماسية، على اعتبار أنّ “اليد الإيرانية هي العليا في القرارات الاستراتيجية التي تنفذها أدوات طهران في المنطقة، كقرار استهداف العمق الإماراتي بالأمس، وهي الممسكة بجهاز التحكم لإعطاء الضوء الأخضر بشن ضربات من هذا القبيل، انطلاقاً من قناعة راسخة بأنه مهما تعددت الأذرع التي تتولى الواجهة التنفيذية لمهمة الهجمات المسيّرة وغير المسيّرة في صنعاء ومختلف العواصم العربية التي لطالما تباهىت القيادة الإيرانية بسطوتها عليها، يبقى الأكيد أنّ “الريموت كونترول” واحد في طهران ويتحكم الحرس الثوري مركزياً بأزراره”.
وفي وقائع الاستهداف الأول من نوعه للأراضي الإماراتية، فإنّ ميليشيا جماعة الحوثي في اليمن تبنت استهداف مطار أبو ظبي ومصفاة “مصفح” النفطية “بعدد كبير من المسيرات و5 صواريخ باليستية”، وفق ما أعلن المتحدث العسكري للحوثيين يحيى سريع، معبراً صراحةً عن استمرار النوايا العدوانية تجاه الإمارات من خلال دعوته “الشركات الأجنبية والمواطنين والمقيمين فيها بالابتعاد عن المنشآت الحيوية حفاظاً على سلامتهم”. وأسفر الهجوم عن مقتل 3 أشخاص من التابعيتين الهندية والباكستانية وإصابة 6 آخرين، من دون أن يؤثر على حركة الملاحة في المطار بالتزامن مع احتواء أضراره المادية التي اقتصرت على احتراق 3 صهاريج نقل محروقات في المنشأة النفطية.
وفي المقابل، توعدت الإمارات “ميليشيا الحوثي الإرهابية” بأنّ استهدافها لمناطق ومنشآت مدنية على الأراضي الإماراتية “لن يمرّ من دون عقاب”، كما شدد وزير الخارجية عبد الله بن زايد آل نهيان، مع التأكيد في هذا المجال على “الاحتفاظ بحق الرد على هذا التصعيد الإجرامي الآثم والجريمة النكراء خارج القوانين الدولية والإنسانية”. وشددت وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية في بيان على أنّ “هذه الميليشيا الإرهابية تواصل جرائمها في مسعى لنشر الإرهاب والفوضى في المنطقة في سبيل تحقيق غاياتها وأهدافها غير المشروعة”.
وإذ أتى الهجوم على أبو ظبي على وقع تقهقر المسلحين الحوثيين على أكثر من جبهة قتال مع القوات اليمنية المدعومة من تحالف دعم الشرعية، وفي طليعتها “ألوية العمالقة” التي كبدت خلال الأسابيع الأخيرة الحوثيين خسائر جسيمة دفعت باتجاه دحرهم عن أكثر من منطقة استراتيجية، أعلن التحالف أمس البدء بعملية شن ضربات جوية على المقرات الحوثية في صنعاء “على مدار 24 ساعة استجابةً للتهديد والضرورة العسكرية”، وسط تشديد قيادة القوات المشتركة للتحالف على الشروع في اتخاذ “الإجراءات العملياتية اللازمة لردع السلوكيات العدائية للحوثيين المدعومين من طهران” لا سيما وأنّ استهداف المنشآت الاقتصادية في السعودية والإمارات يمثل “جرائم حرب يتوجب محاسبة مرتكبيها بوصفها تدق ناقوس خطر وتهديداً للأمن الإقليمي والدولي وتشكل امتداداً لتهديد حرية الملاحة البحرية والتجارة العالمية في مضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر، بالتزامن مع عمليات القرصنة البحرية وتهديد سلامة المجال الجوي الإقليمي”.
وعلى الأثر، توالت الإدانات الأممية والدولية والخليجية والعربية والإسلامية للهجوم الحوثي على الإمارات، فعبّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن شجبه لاستهداف المنشآت المدنية في أبو ظبي، وتعهدت الولايات المتحدة “بالعمل مع شركائنا الإماراتيين على محاسبة” الحوثيين جراء ارتكابهم هذا “الهجوم الإرهابي”، حسبما أكد مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي جيك سوليفان، في وقت تولى وزير الخارجية الأميركية تأكيد تنديد بلاده بالهجوم وإبداء التضامن مع دولة الإمارات في اتصال أجراه مع نظيره الإماراتي، كما دان على المستوى الدولي كل من بريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي والدوما الروسي الاعتداء الحوثي على أبو ظبي.
أما على المستوى الخليجي، فسارعت المملكة العربية السعودية إلى إعلان وقوفها بحزم إلى جانب الإمارات في مواجهة “الهجوم الإرهابي الجبان الذي تقف خلفه قوى الشر”، انطلاقاً من تشديد وزير الخارجية السعودي لنظيره الإماراتي على أنّ “أمن الإمارات والسعودية كل لا يتجزأ”، علماً أنّ تحالف دعم الشرعية في اليمن كان قد أعلن بالتزامن مع الهجوم الحوثي على منشآت إماراتية اعتراض وتدمير 8 طائرات مسيّرة على مدار يوم أمس تم إطلاقها باتجاه المملكة. وكذلك قوبل اعتداء الحوثيين على أبو ظبي بمروحة واسعة من الإدانات الخليجية والعربية والإسلامية، من البحرين إلى الكويت وقطر وعُمان ومنظمة التعاون الإسلامي، مروراً بالأزهر الشريف والجامعة العربية والبرلمان العربي والأردن ومصر والمغرب، وصولاً إلى السودان وموريتانيا.
أما في لبنان، فبدا واضحاً الانقسام العمودي في الموقف بين تأييد “حزب الله” ودعمه للاعتداء الحوثي على المنشآت المدنية في الإمارات، وبين المواقف الرسمية والسياسية المنددة بهذا الاعتداء الإرهابي. فبينما تولى نجل الأمين العام لـ”حزب الله” جواد نصرالله الإشادة بهذا الاعتداء مدوناً في تغريدة حملت شعار “اليمن يؤدب الإمارات: كتلة الزجاج والرذيلة تهتز” في إشارة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، سرعان ما واكبت قناة “المنار” تغريدة نصرالله الإبن باقتباس التعبير نفسه في مقدمة نشرتها المسائية معتبرة أنّ “إمارة الزجاح اهتزت”، مشيدةً بما “حفره الإنجاز” الحوثي في عمق “الأمن الإماراتي”، ومتوعدةً بأنّ الرسائل الحوثية “لن تتوقف عند هذا الحدّ”.
أما على الضفة اللبنانية المقابلة، وإذ بادر على المستوى الرسمي رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى إبداء التضامن مع الإمارات “ضد هذا التعدي السافر”، وأدانت وزارة الخارجية والمغتربين “بشدة الهجوم الذي تعرضت له إمارة أبو ظبي”، بلغت المواقف السياسية سقوفاً أعلى في التنديد بتمادي الميليشيات الحوثية في اعتداءاتها، فكان تصويب لافت للانتباه من الرئيس سعد الحريري على إيران باعتبار أنّ “مصدر الفتنة والفوضى والتخريب هو دولة تضمر الشر للبلدان العربية وشعوبها”، مشدداً على أنّ “مسيرات إيرانية بامتياز استهدفت العاصمة الإماراتية ونفذت عدواناً مكشوفاً على المجال الأمني العربي”، وطالب في المقابل “بوقفة عربية توقف التمدّد الإيراني في دولنا ومجتمعاتنا”.
ومن ناحيته، لفت رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في بيان إلى أنّ “ما يحصل في اليمن هو حرب تقودها طهران من خلال الحوثيين في محاولة مستمرة للانقلاب على الشرعية اليمنية وخيار اليمنيين في دولة واستقرار ودستور وسيادة”، مشدداً على أنّ “ما يقوم به الحوثيون في اليمن واستهدافهم السعودية والإمارات يندرج في سياق البلطجة الموصوفة والرامية إلى محاولة إرباك الدول العربية من أجل دفعها للتراجع عن موقفها الداعم للشرعية اليمنية والشرعيات في مختلف الدول المستهدفة من الأذرع الإيرانية”، وطالب إزاء ذلك “المجتمع الدولي بوضع حد سريع ونهائي للزعزعة المستمرة للوضع في المنطقة، كما للاستهدافات المستنكرة والمرفوضة للسعودية والإمارات، والإسراع في إنهاء حالة التمرد المستمرة على الشرعية في اليمن”.