كتبت صحيفة “الأخبار” تقول: يُتوقع أن تبدأ الاثنين المقبل، عن بُعد، مفاوضات لبنان مع وفد صندوق النقد الدولي بعد أن ينجز وزير المال يوسف خليل مشروع موازنة 2022 غداً، متضمنة أرقاماً شبه نهائية للنفقات والواردات.
مصادر مطلعة قالت إن إعداد مشروع الموازنة يجري “تحت الضغط”، وإن مشكلة كبيرة تواجه البند الخاص بالرواتب، لجهة احترام التوصيات الاولية لصندوق النقد الدولي، ما يعني عدم اعطاء زيادة غلاء معيشة ترفع من القدرة الشرائية لموظفي القطاع العام، مقابل رشوتهم بدعم غير مدروس وغير دائم بدولارات تدخل صناديق المؤسسات العسكرية والامنية، من دون قوانين ومن دون رقابة، والعمل على تحقيق توازن من خلال رفع جنوني للضرائب والرسوم، سيتم تلقائيا بعد احتساب البدلات على سعر صرف جديد للدولار يرفعه من 1500 ليرة الى نحو 20 الفاً. علما ان اسعار الصرف، بحسب بنود الموازنة، تراوح حاليا بين 8000 ليرة و 22 الفاً، ما أثار حفيظة قوى بارزة. وبدا ذلك واضحاً في ردود فعل النواب على تسريبة النائب نقولا نحاس عن احتمال اعتماد سعر 15 ألف ليرة كسعر وسطي. إذ أن ان مثل هذه الطريقة تعني الغاء تاماً لأي قيمة لرواتب موظفي القطاع العام التي لن تكون كافية لتسديد فواتير الكهرباء والهاتف والمياه وأعباء النقل والاستشفاء. وهو ما دفع مطّلعين الى اتهام الرئيس نجيب ميقاتي بمحاولة رمي كرة النار بين أيدي القوى السياسية في مجلس الوزراء، قبل ان ينقل المشكلة الى المجلس النيابي الذي يستبعد ان يقر موازنة كهذه عشية الانتخابات النيابية.
وقد سبق الاستعداد لتقديم الموانة انخفاض في سعر الدولار بأكثر من 10 آلاف ليرة وسط مضاربات هائلة ناتجة من التعميم 161 الذي ضخ بموجبه مصرف لبنان الدولارات عبر المصارف التي باعتها للزبائن مقابل ليرات ورقية.
هذا التعميم الاستباقي للمفاوضات مع صندوق النقد أثار كثيراً من الجدل حول فعاليته. فهناك من يرى أن مفاعيله ظرفية ومؤقتة، وبين من يروّج أنها ستدوم طويلاً، وتُبنى عليها إيجابيات لتوحيد سعر الصرف وتضمينه في الموازنة وإجبار السوق على تقبلّ سعر الصرف المتحرّك.
رغم ذلك، يصرّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على مواصلة تنفيذ التعميم. وهو عرض في اجتماع المجلس المركزي، أمس، نتائج عامة لمفاعيله مشيراً إلى أن طلب الزبائن على الدولار لدى المصارف تقلّص بشكل نسبي مقارنة مع الأيام الأولى لبدء العمل بالتعميم بعد توسيعه منذ أسبوع لغاية اليوم.
ومن أبرز نتائج التعميم 161 أن سلامة زرع داخل كل مقيم في لبنان “مضاربجياً” صغيراً. إذ أتاح التعميم لكل من يملك الليرات الورقية، أن يستبدلها بالدولارات التي يضخّها عبر المصارف على سعر منصّة “صيرفة”، ثم إعادة تصريفها عند الصرافين على سعر السوق الحرّة الأعلى، وتحقيق ربح من فروقات الأسعار. لكن كان لافتاً، أمس، أن سعر السوق الحرّة انخفض للمرّة الأولى إلى أقلّ من سعر منصّة “صيرفة” الذي سجّل 23300 ليرة لكل دولار في مقابل انخفاض سعر السوق الحرّة من 24500 ليرة صباحاً إلى 22100 ليرة مساء. ما يعني أن تقلّص هامش الربحية من المضاربة على الدولار يدفع الناس إلى الإحجام عن استبدال الليرات بالدولارات ما أدّى إلى انخفاض قيمة التداول على “صيرفة” من 43 مليون دولار أول من أمس إلى 34 مليون دولار أمس.
التعميم فتح الباب أمام المضاربة، لكن مهما كانت أهدافه، فإن الحصّة الكبيرة من أرباح المضاربات التي شهدها السوق الأسبوع الماضي، لم تعد كافية لإشباع بطون كافة اللاعبين، ولا سيما التجّار الكبار الذين يملكون الكميات الأكبر من السيولة الورقية بالليرة. فغالبية المصارف فرضت على زبائنها سقفاً معيناً من عمليات استبدال الليرات بالدولارات لا يتجاوز 150 مليون ليرة لكل عملية. كما أنها فرضت تجميد جزء من السيولة التي يحملها الزبائن، أو تجميد الجزء الناتج من العملية بالدولار في الحسابات المصرفية بنسب تتراوح بين 10% و15%، لتقتطع حصّة واسعة من أرباح المضاربات. بالتالي لم تعد هناك جدوى كبيرة لكبار التجار وأصحاب محطات المحروقات وأصحاب السوبرماركت وسواهم فأحجموا عن عملية الاستبدال. وقد أدرك الصرافون هذا الأمر فعمدوا أمس إلى خفض سعر الدولار إلى أقل من سعر “صيرفة” ما قلّص الاندفاعة لاستبدال الليرات بالدولارات التي يضخها مصرف لبنان. غير أن هذا لا يعني أن مفاعيل الأيام الأولى للتعميم تبدّدت بهذه السرعة، بل هذا يشير إلى أن مصرف لبنان بات محكوماً بسيناريوهين مرتبطين بمستوى خفض سعر “صيرفة” في افتتاح التعاملات صباح اليوم: الأول، أن يخفض سعر “صيرفة” بنسبة كبيرة لتسريع وتيرة سحب الليرات من السوق لرفع قدرته على التأثير في السوق وخفض سعر الدولار. والثاني، أن يكون خفض سعر “صيرفة” في افتتاح التعاملات اليوم ضمن هامش محدود يتماشى مع مساره في الأيام الأخيرة حتى يثبّت “المركزي” قدرته على التحكّم بالسعر ضمن المستوى الحالي بهامش تحرّك ضيق.
سلوك مصرف لبنان يصطدم بمسألة أساسية، وهو أنه لم يكن يقدر على استعادة دوره كصانع للعمليات في سوق القطع، ومحاولاً حصر عمليات الصرافة ضمن منصّة “صيرفة”، لولا أنه أمسك السوق من ثلاث جهات: المصارف التي ضخّ الدولارات عبرها، العمليات مع غالبية الصرافين، شراء الدولارات من شركات التحويل المالي بالوسائل الإلكترونية وعلى رأسها OMT. كل ذلك يتطلب أن يضخّ مصرف لبنان الدولارات، سواء تلك التي اشتراها ويشتريها من الصرافين، أو من الاحتياطات. وفي اللحظة التي يتوقف فيها عن ضخّ الدولارات سيفقد قدرته على التحكّم ويفقد دوره مجدداً بعد خسائر هائلة تكبدها في ميزانيته وكبّدها لقسم من المواطنين على حساب الآخرين ممن يتربحون من عمليات المضاربة. هكذا ستفقد “صيرفة” الزخم الذي حظيت به في الأيام الأخيرة.
بهذا المعنى، الدور المستعاد للمصرف هو دور هشّ يتطلب تعزيزه الانتقال من التقنيات إلى الأساسيات. أما هذه الأخيرة فباتت معروفة وتتطلب أن تكون هناك رؤية واضحة لما سيتم القيام به في عملية تحديد وتوزيع الخسائر، ولمشروع الموازنة الذي ما زال العمل به محصوراً في أرقام النفقات والإيرادات بعيداً من الإصلاحات الأساسية. وعملية الانتقال هذه لن تكون سهلة، إذ إن خطّة التعافي محكومة بالتوافق عليها للتفاوض مع صندوق النقد، غير أن إجراءات مصرف لبنان في هذا الإطار تعزّز دوره في تكريس المسار الذي رسمه من البداية. ففي اجتماعات عقدت أخيراً تبيّن أن النزاع مع نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي على بنود خطّة التعافي ما زال سارياً، ولا سيما الشق المتعلق بتوزيع خسائر مصرف لبنان والمصارف، لا بل إن تقديم انخفاض سعر الصرف زاد من قدرة سلامة على فرض رؤيته على بعض البنود التي تتعلق بتحويل الودائع قسراً إلى الليرة واستحواذ المصارف على أملاك الدولة.
في السياق نفسه، تبدو الموازنة محكومة بمسائل متنوعة على ضفتي النفقات والإيرادات. ففي النفقات، هناك أكلاف تشغيل وصيانة وسواها يجب أن تحتسب على أساس سعر الدولار. هنا النقاش يصبح عبثياً بشكل ما. فسعر “صيرفة” لم يستقرّ بعد ليعتمد بشكل نهائي في الموازنة، بل ما يجب اعتماده هو السعر المتوقع خلال السنة بكاملها، وليس سعراً عمره يومين فقط. وإلى جانب أكلاف التشغيل والصيانة، هناك أكلاف أخرى مثل التحويلات لمؤسسة كهرباء لبنان لشراء الفيول، وكيفية احتساب الدين العام بالدولار (مع اقتطاعات أو من دونها؟). كذلك يتم احتساب كلفة الرواتب والأجور في الموازنة بزيادة تتراوح بين 50% و100%! هناك الكثير من البنود في هذا المجال، مثل الدولار الديبلوماسي، وهل سيواصل مصرف لبنان تمويل الدولة بحاجاتها من الدولارات.
عملياً، كل رقم في النفقات سيؤدي إلى نتيجة مختلفة، وكل نتائج مختلفة تتطلب إيرادات إضافية. فعلى ضفّة الإيرادات يصبح الأمر صعباً أكثر إذا جرى احتساب ضرائب إضافية سواء كانت ضرائب مباشرة أم غير مباشرة. فزيادة الدولار الجمركي لن تؤدي بالضرورة إلى زيادة الإيرادات بالشكل المتوقع لأنه يحفّز التهريب ويقلص الاستيراد ويفاقم الأسعار. يجري الترويج بأن النفقات الأساسية لن تتأثّر بزيادة الدولار الجمركي، ولن تؤثّر في الأسعار، لكن الواقع هو أن بنداً واحداً مثل البنزين الخاضع للرسوم الجمركية ولضريبة القيمة المضافة سيفاقم كل الأسعار وسيؤدي حتماً إلى تقليص الاستهلاك أكثر مما تقلص لغاية الآن منذ رفع الدعم، بالتالي يصبح توقع الإيرادات أكثر صعوبة. وكل هذا النقاش يدور حول ضريبة واحدة، فكيف سيكون الأمر إذا قرّرت قوى السلطة زيادة ضريبة القيمة المضافة؟ أو زيادة رسوم الطابع المالي، ورسوم كتاب العدل، أو تعرفة الكهرباء، أو تعرفة الاتصالات، أو كلفة الاستشفاء، وسواها.
ما تغفله قوى السلطة وحاكم مصرف لبنان أن الكارثة كبيرة جداً. فالأمر لم يعد يتعلق بالخسائر في القطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف)، بل بخسائر المجتمع التي صارت ضخمة جداً وعميقة، أي لا يمكن تداركها بالتحكّم بسعر الصرف بشكل اصطناعي كما يحصل الآن، أو عبر مساعدة اجتماعية لموظفي القطاعين العام والخاص، أو أي “سعدنات” أخرى.