صامت الحكومة 4 أشهر و”فطرت” على مشروع موازنة بعجز مقدّر بـ20.7 في المئة، وهي نسبة مرتفعة لم تسجل في أكثر السنوات هدراً وإنفاقاً، ولم يضاهها إلا حجم الموازنة المضخم والمقدر بـ 49.4 ألف مليار ليرة، مقارنة مع 18.7 ألف مليار في موازنة العام الماضي. وإذا كان مفهوماً تعاظم الارقام بعدما جرى “دفن” سعر الصرف الرسمي القديم وتقييم الايرادات على أساس سعر صرف يتراوح بين 15 و20 الف ليرة، فإنه من غير المبرر تسجيل هذه النسبة من العجز، ولا سيما أن لبنان لا يزال متوقفاً عن السداد بالعملة الأجنبية أو حتى التفاوض بشأنه، علماً أنه كان قد تعهد منذ مؤتمر “سيدر” بتخفيض العجز في الموازنة من حدود 7 و8 في المئة رسمياً (كان يتجاوز فعلياً 12 في المئة) إلى ما دون الـ5 في المئة… فكيف للحكومة أن تقابل المجتمع الدولي وصندوق النقد، وتقدم نفسها كجهة راغبة في الاصلاح مع هذه النسب من العجز؟
بالأرقام، يتبين أنّ موازنة العام 2022 هي موازنة “تعميق الانكماش الاقتصادي” بامتياز، أما في الأبعاد الاستنسابية للمشروع فيتوقف الخبراء الماليون عند نص المادة 133 الذي يجيز للحكومة “تحديد سعر تحويل العملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية من أجل استيفاء الضرائب والرسوم”، بينما في الأبعاد السياسية البحتة لهذا الجانب، فإنّ تحديد سعر صرف الدولار الحكومي بات بموجب المادة 109 من الموازنة خاضعاً لتقييم وزير المالية ما يجعل منصة “التوقيع الثالث” حاكمة ومتحكمة بتسعيرة الدولار الضريبي لا سيما وأن دور وزير المالية سيكون معززاً بصلاحيات تشريعية استثنائية تمنحه حق تعديل معدلات وشطور الضرائب، الأمر الذي سيشرع الباب أمام تفاوت واسع في تحديد أسعار الصرف الخاصة بالتكليف الضريبي.
وعدا عن تشريع الاستنسابية في أسعار الصرف وابتعاد الحكومة أكثر فأكثر عن توحيد سوق صرف الدولار، فإنّ هذا الإجراء قد يتيح للمصارف على سبيل المثال الاستمرار في تقديم ميزانياتها على أساس سعر صرف 1500 ليرة في حين تحتسب الضرائب على الأفراد (ضريبة الدخل) وعلى الاعمال (رسم الطابع المالي، الضريبة على القيمة المضافة، وضرائب ورسوم على الجمارك…) بنسبة أعلى بكثير، وقد تحتسب على سعر منصة صيرفة.
وإذ سرت تسريبات وزارية أمس عبر وكالة “رويترز” تفيد بأنّ مشروع الموازنة سيطبق سعر صرف للدولار يتراوح بين 15 ألف ليرة و20 ألفاً للنفقات التشغيلية، فإنّ المشروع يتضمن في جوهره فرضاً للمزيد من الأعباء والرسوم بدءاً من جواز السفر، مروراً بالتسجيل العقاري والقيمة التأجيرية والرسوم الجمركية… وصولاً حتى إلزام الشركات بتوطين حسابات موظفيها في المصارف وذلك على الرغم من كل التجاوزات المصرفية وعرقلة التحويل بين الحسابات. هذا ولم يخلُ مشروع الموازنة من شيء من “الطرافة” حين حملت المادة 111 منه عنوان “قانون حماية نوعية الهواء”، والتي تنص على فرض رسم تصاعدي على انبعاثات المصدر حسب درجة تلويثها للهواء المحيط. وبغض النظر عن دواخين معامل كهرباء الدولة المسرطنة، ومكباتها العشوائية التي تزكم أنوف الداخلين والخارجين من مطار رفيق الحريري الدولي، وأنهار مجاريرها ومعامل الصرف الصحي التابعة لها وتعطل معامل التكرير، فإن الاهتمام بنوعية الهواء وإهمال نوعية حياة المواطنين الذين باتوا يوقدون البلاستيك للتدفئة، لهو أسطع مثال عن حالة “الشيزوفرينيا” المتأصلة في ذهنية السلطة.
وبينما ينتظر العالم إنطلاق القطار الحكومي على مسار الإصلاح ووقف الهدر والفساد باعتباره المدخل الوحيد لتقديم المساعدات الدولية للبنان، برزت أمس رسالة فرنسية واضحة تربط عضوياً بين سكتي الإصلاح والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، فكان بهذا المعنى تشديد منسق المساعدات الدولية من أجل لبنان السفير بيار دوكان أمام وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية الذي يزور باريس لأخذ المشورة حول سير المرافق الفرنسية، على أنّ الإصلاح الذي يجب على الحكومة اللبنانية السير به لا بد وأن يكون “في كنف الاتفاق مع صندوق النقد الدولي”، في إشارة صريحة إلى عزم باريس على قطع الطريق أمام أي “مناورة” حكومية تقارب الخطوات الإصلاحية على “الطريقة اللبنانية” وتحاول من خلالها السلطة الالتفاف والتذاكي على متطلبات صندوق النقد لناحية التغيير الهيكلي في بنية الاقتصاد والقطاع العام للدولة.